زهرة فوق طاولة السماء إسمها غايا آرا فودوليان
الدكتور نسيم الخوري
ساعديني يا "غايا" وأنت تنظرين حولك طفلةً في عيون الملائكة وتسألين ألف سؤآل. أمسكي بيدي يا ملاكاً قطفه الإنفجار في عزّ إشراقات صباه. أمسكي بحبري كي أحسن الكتابة والتعبير المستقيم في وطنٍ لواه الإنفجار من الجذور.
أمسكي دمع أمّك الأبدية وصمتها يقهر الكلمات تسأل عنك وتعدّ الجروح في صراخك طوال الليل والنهار.
أمسكي الغصة المتفجّرة في صوت والدك الحبيب المبحوح آرا صديقي وأستاذ زهرتينا الدالية والريّا. كان آرا الأسمر صديقاً يتلحّف بعبسة آنشتين ويقضم اللفافة السمراء. أستاذ الرياضيات ذو المهابة في "المؤسسة اللبنانية الحديثة" في تلّة الفنار الخضراء الصامتة المجروحة.
كان يمسك بيدك الطريّة مع أنشودة الصباح يعلّمك تجليس اللثغات فوق شفتيك، وكم تعب وسعد وانتظر قبل أن تبلغ غايا الصبيّة إبنة ال29، بعدما درست الهندسة لسنة جامعية في ميلانو أولاً وثلاثة في سويسرا وقد نجحت وبرزت وأشرقت ملء حياة والديها وأخواتها، لكنها عادت إلى بيروت بكونها الرحم الجاذب، وغابت مع هول الإنفجار الذي قذف بها زهرة المرافيء نحو بهو الصالون السماوي.
ساعديني يا زهرة النار يا غايتها الأخيرة فوق طاولة السماء.
جاء صوت الهاتف من لندن يرويني دمعاً مضمّخاً بغربة مجروحة مزروعة بالشوق والحب لبيروت. ناح الهاتف منذ شهر مثل صبي ضائع قال: أعرفت أنّ غايا إبنة الأستاذ آرا قد قتلت وغابت مثل غيمة جميلة في الإنفجار.
وكان لا بدّ لتفجّر الحزن بين بيني وبين آرا…
إسمعي يا غايا. حضنتك في "المؤسسة اللبنانية الحديثة" عيون المدرسة والرفيقات والرفاق المزّعين في الأرض، وحضنتك مدام مونتيسوري التي لم يغب طيفها من أجواء المدرسة، وحضنك الأب خليفة بدمعه المخنوق لا ينسكب سوى في الليل وحيداً مع الصلاة وتقديس القرابين والحريّة والنحت في بناء شخصيّة الأطفال والإنسان من أجل مستقبل لبنان. وحضنك مارون نعم مارون خليفة الذي لم يغادر الأحمر مقلتيه وقد خلّع الإنفجار أسس المؤسسة الجارة وأذهله أن تغيب غايا ويبتلعها الموت مثل زهرة في الحنجرة أو سيف تهادى في عشب الصبايا. مارون يبكيك… والمدرسة تبكيك وكلّهم ينتظرون لنرفع صورتك يا شهيدة فوق جدران المؤسسة.
آه، لو تعرفين كم يبدو القهر عظيماً في عيني الأستاذ المنير عفيش، والأصدقاء والرفاق والرفيقات…ماذا أكتب. ساعديني يا زهرة النار وأغنية الإنفجار.
لو تعلمين يا غايا كيف ينتظر في البيت القصيدة؟
ليس من زادٍ لنا سوى القصائد والكتابة بحثاً عن القيامة، أيّة قيامة ولو كانت قشّة نظيفةً في سخف لبنان وأوديته الحافلة بالوحوش والمجانين والصخور البشريّة الصمّاء؟
كم يصبح الحبر سخيفاً إذ ينهمر بين الأصابع مزاحماً الدموع الحارقة من موتٍ وجوعٍ في أرجاء لبنان.
أنت يا غايا صديقة الطيور المجروحة وقد تكسّرت جوانحها أخبرني آرا، وأنت صديقة الحيوانات الشريدة في الأرض أينما حللت، كيف لحكمتك يا ربّ أن تصبح تلك الصبية كومة قش عزباء جميلة غيرموضبة سوى للحريق الموعود بالرماد الأبدي نمسح به وجه الكائنات الشريدة الجائعة؟
حلّ الأسود في البيت كما الحبر وأغمق حدداً عليك، والشمع في الكنائس لا ينطفيء يحمل اسمك متشبثا بالصواني الناصعة رمزاً لحرقة موت الصبايا بين عيني المسيح. مع كل نقطة شمع تسقط فوق البلاط أو في جرن الماء يناديك آرا فتسمعين. نعم تسمعين ويد الله تحكم الأقفال السماوية حفاظاً عليك.
منذ شهرٍ غادرت لبنان وغادرتم شباباً وصبايا وأطفالاً وكهولاً ومنازل وخبايا تملأ الأرض هنا وتنهك العيون مشدودة نحو السماء.
إخترتك رمزاً أو أيقونةً ما اشتعلت لكنك تشتعلين بالمسيح الساهر والمقيم.
ها أنا أنشر صورتك الأخيرة فوق شرفة المغادرة يا غايا. أرسلها لي والدك أيقونة الإنفجار قال، وكان لا بدّ لي من أن أعتّق الحبر وأصفّيه من شكوى في لبنان وغضب ودموع.
9/9/2020