رأي

زاهر الخطيب… الرجل الذي عبر الذاكرة كأنه جملة ناقصة لم يكتمل زمنها(أسامة مشيمش)

 

بقلم: الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

 

لم ألتقِ الوزير السابق زاهر الخطيب إلا مرّة واحدة، لكنها كانت كافية لتزرع في داخلي سؤالاً ظلّ يرافقني سنوات. كان ذلك في عام 1997، في قاعة الاحتفالات بثانوية “البتول” في حارة حريك. دخل الخطيب القاعة يومها بهدوء لا يتناسب مع ثقل المرحلة التي كان يتحدث عنها: المشروع الصهيوني–الأميركي في المنطقة. جلس على المنصة، وبدا كمن يحمل أكثر مما تستطيع الكلمات أن تحمله، ثم بدأ ينسج تحليله بهدوء يشبه سكينة العارفين. لم يكن يرفع صوته، ومع ذلك كان حضوره يفرض صمتاً أشبه بصمت المكتبات القديمة.

 

كنت أراقبه بشيء من الدهشة. لم يكن خطيباً يستعرض، ولا سياسياً يبحث عن شعبية. كان عقلًا يقود قلبًا، وقلباً يقود موقفاً. يومها خرجت من القاعة وأنا أدرك أنني التقيت رجلاً لا ينتمي إلى اللحظة السياسية الضيقة، بل إلى فكرةٍ أكبر من زمنه. لم أكن أعلم أن تلك اللحظة العابرة ستعود إليّ اليوم، وأنا أكتب عنه في وفاته، كأنها تطلب أن تتحول إلى بوابة لفهم الرجل كلّه.

 

الذين عرفوا زاهر الخطيب عن قرب يقولون إنه كان يدخل السياسة كما يدخل المرء غرفةً يعلم جيداً أنها ليست له، ومع ذلك يحاول أن يترك فيها بصمة. ومن يعرف مساره يدرك أنه كان من النوع الذي يربك السلطة لأنه لا يتقن لغة الالتواء. حين تولّى حقيبة الإصلاح الإداري في أوائل التسعينيات، حمل معه مشروعاً لم تشبهه الحقائب الوزارية التي تُحشى بالشعارات: كتيّب صغير، برنامج واضح، رؤية مكتملة لإصلاح جهاز دولة مأكول من الداخل.

 

كان ذلك أشبه بوضع مرآة أمام منظومة لا تريد أن ترى نفسها. وبدلاً من أن تتجاوب مع دعوته إلى إصلاح الإدارة، قررت أن تُخرج صاحب المشروع. هكذا بدأت المواجهة ، مواجهة لم تكن صاخبة بقدر ما كانت عميقة ومقلقة. فالخطيب لم يكن يهاجم لأجل الهجوم، بل كان يفكّك السياسات المالية والاقتصادية التي بدأت ترسم معالم لبنان الجديد. ومع كل مداخلة له، كان يزداد الشعور بأن الرجل “خطر” على هندسة السلطة لا على هندسة الدولة.

 

وحين تتكامل السلطة مع النفوذ الإقليمي، تصبح عملية الإقصاء أسرع من أن تُرى. فكان أن أُخرج الخطيب من اللعبة، لا لأن حجته ضعيفة، بل لأن حضوره ثقيل على ميزان الصفقات.

 

 

لكنّ الرجل كان أكبر من منصب. كان امتداداً لبيتٍ سياسي بدأ من والده أنور الخطيب، أحد وجوه إقليم الخروب ورجالاته الوطنيين. شرعية هذا البيت لم تكن وراثية بقدر ما كانت أخلاقية: علاقة مع الناس، مبدأ ثابت، موقف لا يُشترى. تلك الشرعية كانت تُربك من يريد احتكار التمثيل السُنّي، ولذلك لم يكن وجود زاهر الخطيب مريحاً للقوى التي كانت تعيد رسم الخريطة السياسية بعد الطائف.

 

وفي ما هو أبعد من السياسة المحلية، حمل الخطيب رؤية لا تتجزأ. رفض اتفاق 17 أيار 1983 لأنه رأى فيه كسراً لعمود الكرامة الوطنية. واجه تداعيات الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 كمن يدافع عن ظلّ وطن لا يريد أن يذوب. دعم قضايا الشعوب المضطهدة كما دعم القضية الفلسطينية، لأنه كان يرى العدالة كهوية لا كتحالف. لم يكن معادياً للهيمنة الأميركية لأنه “معادٍ”، بل لأنه كان يعتبر أن مشروع الهيمنة يحطم المعنى قبل أن يحطم الأرض.

 

 

حين أنظر اليوم إلى تلك اللحظة التي جمعني فيها القدر بالرجل عام 1997، أفهم ما الذي جعل حضوره قادراً على مقاومة الغياب. كان يشبه تلك الشخصيات التي تمرّ في التاريخ مثل علامة استفهام، لا لأنها غامضة، بل لأنها واضحة أكثر مما تحتمل الأزمنة الملتبسة. رجلٌ عرف أن السياسة ليست فنّ الممكن، بل فنّ عدم خيانة الممكن.

 

رحل زاهر الخطيب، لكن سيرة الرجل بقيت، لا كصفحة تطوى، بل كمرآة نتذكّر من خلالها أن الإصلاح كان ممكناً، وأن النزاهة لم تكن يوماً وهماً، وأن لبنان عرف رجالاً حملوا الموقف كأمانة لا كبطاقة عبور.

 

لروحه سلامٌ مع فاتحة الكتاب الكريم  تليق بمن سار في السياسة كمسافرٍ ضوئيّ في زمنٍ كثيف العتمة. ولذكراه أن تبقى دليلاً على أن الحقيقة قد تخسر في الحاضر لكنها تنتصر في الذاكرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى