ثقافةفنون

‎بطاقة حب لفقيدنا الراحل المايسترو جورج حرّو(عمّار مروة)

 

كتب عمار مروة – بلجيكا

غيّب الموت اليوم الصديق العميد المايسترو جورج حرّو ، قائد موسيقى الجيش ومؤسسها الفعلي،والمؤلف والموزع الموسيقي الذي بدأ العزف على البيانو في سن مبكرة على يد والده المايسترو مايك حرّو.

‎التحق جورج في العام 1979 بالمعهد الوطني العالي  للموسيقى، حيث تابع علومه الموسيقيه من نظريات الموسيقى والهارموني والكونتربوينت على يد الاستاذ توفيق سكر المدير الاسبق للمعهد الموسيقي الوطني حتى نيله الدبلوم في الموسيقى سنة 1985.

‎في العام 1979 انتسب الى كلية الموسيقى في جامعة الروح القدس في الكسليك، حيث تابع علومه الموسيقيه ونال اجازة في العلوم الموسيقيه عام 1982 ،كما تابع دروسه على آلة البيانو على يد الاستاذ استيفان اميان.

‎في العام 1983 التحق بالمؤسسة العسكرية بصفة تلميذ ضابط وتخرج منها بصفة ملازم موسيقي بتاريخ 16\4\198،وتولى وظائف عدة خلال خدمته العسكرية ،من آمر سرية الى قائد مدرسة موسيقية حتى تعيينه قائد موسيقى الجيش اللبناني في شباط  2000 ،وبقي في منصبه حتى بلوغه سن التقاعد وإحالته عام 2012 برتبة عميد. وكان التحق سنة 2004 للمرة الثانية في جامعة الروح القدس الكسليك  ليتابع علومه وينال شهادة الدكتوراه عام 2010.

‎خلال خدمته العسكرية قاد الفرقة الموسيقية التابعة للجيش الفرنسي والفرقة الموسيقية التابعة للجيش الملكي الأردني، حائزًا على تناويه وأوسمه عدة أبرزها من الرئيسين الفرنسي والسلوفاكي.  

‎له مساهمات كبيرة في  الحفاظ على ارثنا الفني والموسيقي، كإطلاق فرقة زكي ناصيف للموسيقى العربية، واصدار كتاب “اللحن الثائر”  عن سيرة واعمال الاخوين محمد واحمد سليم فليفل، إضافة الى العديد من الاعمال الموسيقية.

‎تعرفت  إلى العميد اولاً من خلال قيادته الأعمال الموسيقية المركَّبة التي لفتتني بميزتين: الاولى انه كان دائماً يوزع العمل بنفسه، ويحضر نسيج التوزيع البوليفوني بناءً على الإمكانات المتوفرة في الأوركسترا المتاحه امامه، فلم يكن مثل غيره من المتباكين والشاكين، لأنه كان يعلم ان سمة الكبار هو التواضع والقبول بالامر الواقع، وهذا ما لا يستطيع عليه الا اذا كان مايسترو خلاقا، ويستطيع ان يبدع ويجود من الموجود، خصوصاً ان في لبنان نقصا فاضحا في الكادر الموسيقي، خصوصاً موسيقى الجيش وقوى الامن، والالات الموجودة لا تناسب دائماً المعزوفات، سواء كانت عسكرية أو وطنية تلبي نداء استنهاض المناسبات المتنوعة ،او كانت رحبانية او تراثية او سواها .

‎ كان المايسترو حرّو يسدّ ثغرات غياب النفخ النحاسي بضخ ما هو متيسر من الوتريات . كان غالباً ما يعرف قوة القانون وغيره ،وذلك بذكاء من يعرف كيف يقوم بذلك بشكل خلاق خصوصاً في استعمال طاقة الصوت الطنيني للذبذبات في الهندسه الموسيقيه .

لم يستسلم او يتأفف ابداً بل غامر بذكاء ونجح دائماً بمعرفته الاكاديمية وذكائه العملي بالتعامل مع نسيج الاركسة ،لأنه عرف كيف يستثمر صوت كل آلة. لم اسمع مرة عازفاً شكا من تسلطه او تكبره او قسوته، لأنه عرف كيف يضخ روح الثقة بالنفس في الضعف الاكاديمي عند كل موسيقي غير واثق بنفسه وغير مؤهل بامكاناته بالمقاييس العالمية. كان يعرف ذلك بالفطرة فيشعل بالاوركسترا نوعا من انواع التواطؤ المهني الانساني ،فيتضامن جميع العازفين وتدب فيهم روح تضامنية معنوية نفسية عجيبه وينجح العمل ويلتهب الجمهور بالرضا والانسجام.

‎الميزة الثانية كانت في ذوقه وحسه الموسيقي الرفيع فكان يضحك كثيراً بانتشاء كلما قلت له انه في خياراته الذكية يذكرني بعصفور الدوري الذي وهو بعيد في السماء يرى من الاعالي اجمل ثمرة في اغنى شجرة في البستان، فينقضّ عليها بسرعة ليقطفها قبل بقية الطيور، واذا تنقل المرء في خياراته لوجدها محصورة في اعمال الرحابنة من الاخوين نزولاً الى ابنائهم مروراً بزكي ناصيف وفيلمون وهبة والأخوين فليفل وبقية كنوزنا الموسيقية المجهولة التي عمل على إعادة توزيعها بالمتاح امامه من الالات من دون تكبر ،وحتى من دون ان يشكو من قلة المردود المادي كما يفعل غيره.

ولطالما شكا لي من غيرة المغنيات المشهورات من بعضهن عندما يتصل بهن ليعرض عليهن الغناء في المناسبات المتنوعة عندما يقتضي وجود عده مغنيات. كان يفاجأ برفضهن التواجد معًا، فكل واحدة تفترض انها الاعظم ولا تستحق ان تكون مع الأخريات. وبقدر ما كان متواضعًا واضحًا بسيطًا غير متطلب كان يتفاجأ بعقد نفسية عند اكثرية من يعتقدون ويعتقدن انفسهن وانفسهم فنانين  وفنانات. كنت اعرف هذه الاشياء لأني اعرف هؤلاء الذين كان يتكلم عنهم كم هم مغرورون ومدّعون ،وكان يعاني منهم.. ومحقاً بذلك.

‎لطالما اعجب بمقالاتي في الصحف .وكونه كان يودني كان يتصل بي اذا وجد انني كنت قاسياً احياناً ومن باب المحبة. كنت اعود واتراجع واصحح، ولا اخفي انه كان معظم الاوقات على حق ويريدني ان اكون الافضل.

‎التقينا اول مرة في بيتي في بلجيكا حيث تعارفت عائلتانا ، ولثلاثة ايام التقينا في “انتورب” وبروكسل وكانت الموسيقى وهمومها في لبنان محور الاحاديث. وخلال لقاءاتنا التي دامت في لبنان حيث استمرت لقاءاتنا في مسبح الحمام العسكري او في بيتنا او أمكنة اخرى، وحتى اثناء تواصلنا عبر وسائل التواصل الخاصه ( سكايب واتس اب …) بدا لي دائماً ذلك الرجل الراقي العصامي الكريم النفس الذي يعرف كيف يقنعك باسلوبه الخاص الذي يصعب وصفه لأنه شفاف، ولا يمكن ان يتعلمه المرء لانه عادة ما  يولد معه .

‎لعلني أحور وأدور لأعترف كم احببت هذا الرجل الذي يستحق كل الاعجاب والمحبة ، لانني تعلمت منه اشياء كثيره لا يمكن ان تتعلمها من غيره. ولانه كان يعلم هذا ضمناً بالفطرة لم يبخل يوماً بطلب، وكنت اتعجب من كرمه وصبره لأنني كنت اقارنه بغيره من الموسيقيين .

 

‎ لطالما اطلعني على مؤلفات له يطلب رأيي فيها ، وكنت اتعجب من ذلك ، ولكنه يصر بالدخول الى التفاصيل ،وكلما حاولت التهرب يتقرب اكثر، ويفرح عندما ادلل على فكرة جديدة او تشابه ما لجملة موسيقية له مع جمله اخرى لغيره ،ولم يكن هذا يضيره ابداً بل للامانة كان يفرحه. كانت جملته الموسيقية دائماً مركبة ، وتحن في ميولها اللحنية الى روح رحبانية تارةً او الى شوق دفين لمؤلفات توفيق الباشا تارةً اخرى ،ونادراً ما ترنو الى جمل محمد عبد الوهاب وكل ذلك يحدث عنده في اللاوعي .

كان يفرح بشدة عندما كنت أشير على هذه الجمل ، وكنت اتعجب من تواضعه الجم وادبه الواضح في ابتسامته الدائمة حتى عندما يجد ما لا يتوقع .

‎اتقدم من زوجته الصديقه العزيزه السيده هيفاء ومن كريمتيه بخالص محبتي واحترامي وعزائي، وانا على يقين انه موجود الآن في علياء السماء الكريمة المحبة مع القلائل امثاله من الكرام الطيبين اصحاب القلوب البيضاء !.

‎صديقي المايسترو،

 لتسترح روحك المحبة الراقية في الاعالي مع من احببت من العظماء وليبقَ ذكرك جميلاً راقياً ومؤبدًا.

‎صديقك المخلص والمحب  عمّار مروه..

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى