رحل أنيس النقاش..وأمثاله قليل!
حيدر شومان
من نكد الدنيا علينا أن يموت عظماؤنا في هذا الزمن الرديء الذي تهاوت فيه كل القيم وعاش لبنان مرحلة تكاد تكون الأسوأ في تاريخه. نعم، لقد كان أنيس النقاش عظيماً من عظماء بلادنا، وافتقادنا إياه أثناء مرضه يؤذّن لما سوف يكون الفراغ الكبير الذي سيتركه رحيله إلى بارئه في الآتي من الأيام.
تراه عبر الشاشة محللاً استراتيجياً يشمل الآفاق ولا يغرق في تفاصيل المشكلات الصغيرة ولا العناوين المحدودة، بل كان ملمّاً بأبعاد المراحل الشاسعة التي تسير في ركابها الدول الكبيرة، وليس ذلك إلا لأنه كان يعيش الأمة في وعيه السياسي والاجتماعي والنضالي.
كان منظّراً من الطراز الأول، لكن هذا التنظير كان مؤطراً بتجارب نضالية عاشها في ساحات المعارك والميادين الساخنة ضد العدو الصهيوني ومن يجاريه في العداء والتوجّه، وتاريخه النضالي ليس مخفياً على أكثرية النخب المثقفة التي كانت تجد في ما يقول ويحلل مصداقاً جلياً وواضحاً للحقيقة الناصعة التي كان يؤمن بها وقاتل طويلاً من أجلها.
ولقد كانت المقاومة شعاره الأول في كل الميادين المختلفة، وقد كان من مجاهديها والمقاتلين الشرسين ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ السبعينيات، وأكمل مسيرته في هذا المضمار حتى آخر أيام حياته، إذ أن النضال ضد العدو الصهيوني لم ينتهِ بعد انسحابه من لبنان سنة ألفين كما يظن البعض أو يحلو له أن يظن، ولا بعد هزيمته سنة 2006، فهذا الجهاد، كما كان يؤمن، طريقه طويل وشاق ولا ينتهي إلا مع تحرير فلسطين واستعادة البلاد العربية المحتلة.
وكما أحب لبنان وجاهد من أجله طويلاً، فقد كانت فلسطين قضيته المثلى التي وإن ضلَّ في سبيلها الكثيرون واختاروا الصلح والخنوع مع المحتل خياراً فإنها ستبقى البوصلة المنيرة لكل العرب والمسلمين والأحرار في هذا العالم.
لم يهادن أو ينافق أحداً من حلفائه وأصدقائه عندما يرى خطأ يُمارس أو زللاً في الطريق، وكلنا يذكر في الفترة الأخيرة كيف وقف بحدة وقسوة ضد ممارسة المقاومة التي اعتبرها خاطئة في ما يتعلق بدعوتها مناصريها للانسحاب من انتفاضة الشارع كيلا تقع الفتن والمعارك الجانبية، ودعا إلى أن تتبنى المقاومة بجمهورها الأكبر التظاهر والمتظاهرين لكيلا لا يندسّ البعض من الأحزاب المعروفة وغير المعروفة في لبنان لحرف الانتفاضة وتغيير توجهها الذي بدأ صحيحاً لكنه، وكما توقع، انتقل بعد أسابيع قليلة ليناصب المقاومة وحلفاءها العداء.
لقد كان واثقاً بانتصار محور المقاومة ضد الانبطاحيين والعملاء، وبأن إسرائيل مهما طال الزمان إلى زوال، ولم تضعفه نداءات الشواذ من هنا وهناك ولم تسكن خطابه عالي النبرة، واثق الكلمة، صادق اللهجة، فالمرحلة الحالية تظهر بما لا يدع للشك أي مجال في أن الآتي سيكون أفضل للأمة العربية والإسلامية.
في هذا الوضع القائم الذي نعيش تداعياته في لبنان، وكل ما فيه ظلام في ظلام، نفتقد هذا الرجل المجاهد وسنفتقده أكثر كلما ضاقت بنا الأرض بما رحبت، إذ تعوزنا قوة أنيس النقاش وحضوره الطاغي وثقته العالية بالنفس وبالأمة، فأمثاله قليل في هذا الوقت المخيف الذي يسيطر اليأس فيه على غالبية اللبنانيين وهم يعانون الفقر والجوع والمرض والوباء ودجل السياسيين.
رحم الله المفكر والمجاهد والمقاوم أنيس نقاش ولنا في أمثاله وإن قلوا شيئاً من العزاء.