منوعات

رحلة الحشيشة في لبنان :حين تُحرق الأرض بدل أن تُحتضن (غادة حيدر) 

 

تحقيق غادة حيدر – الحوارنيوز – خاص

في صباحات البقاع، لا تُحصد الأحلام بل تُجتث. تمرّ الجرافات على حقول خضراء، لا لتقطف ثمارها، بل لتُحيلها رمادًا. نبتة الحشيشة، التي تنمو بلا عناء في تربة خصبة، تُعامل كعدو، لا كمورد. يُنظر إليها كخطر يجب اقتلاعه، لا كفرصة يجب تنظيمها. وبينما العالم يشرّع زراعتها لأغراض طبية وصناعية، لا يزال لبنان يُصرّ على إتلافها، وكأننا نُحارب الطبيعة نفسها.

في البقاع، حيث الأرض الخصبة لزراعة الحشيشة، لا خيار أمام المزارع سوى أن يزرعها أو أن يهاجر. الدولة غائبة، البدائل معدومة، والسياسات الزراعية لا تتجاوز حدود الورق. ومع كل موسم حصاد، يعود المشهد ذاته: مزارعون يراقبون محاصيلهم تُدمّر، لا لأنهم خالفوا القانون، بل لأن القانون نفسه لا يعترف بواقعهم.

هذا التحقيق لا يهدف إلى تبرير الفوضى، بل إلى مساءلة السياسات. لا يدعو إلى التطبيع مع المخدرات، بل إلى تنظيم الزراعة، حماية الأرض، والاستثمار في نبتة تحمل في جذورها إمكانيات طبية واقتصادية هائلة. فهل آن الأوان أن نعيد النظر في علاقتنا مع الحشيشة؟ وهل يمكن للبنان أن يتحول من بلد يُتلف النبتة إلى بلد يُنظّمها ويستثمرها؟

 

من التجريم إلى التشريع: رحلة الحشيشة في القانون اللبناني

لطالما تعامل القانون اللبناني مع الحشيشة باعتبارها مادة ممنوعة، تُزرع في الخفاء وتُتلف في العلن. منذ ستينيات القرن الماضي، ارتبطت هذه النبتة في الخطاب الرسمي بالجريمة، التهريب، والانحراف، دون أي محاولة لفهم واقعها الزراعي أو إمكانياتها الطبية. لكن هذا التصوّر بدأ يتصدّع تدريجيًا، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي دفعت الدولة إلى البحث عن موارد بديلة.

في عام 2020، أقرّ مجلس النواب اللبناني قانونًا يشرّع زراعة القنب لأغراض طبية وصناعية، وهو القانون رقم 178/2020. شكّل هذا القانون خطوة تاريخية، إذ اعترف لأول مرة بإمكانية تحويل الحشيشة من مادة ممنوعة إلى مورد مشروع. لكن رغم صدوره، بقي القانون معلقًا، دون مراسيم تنفيذية أو آليات واضحة للتطبيق.

ماذا يقول القانون؟

ينص القانون على:

إنشاء هيئة تنظيمية تشرف على الزراعة والتصنيع والتوزيع.
منح تراخيص للمزارعين والشركات وفق شروط صارمة.
تحديد استخدامات القنب في المجالات الطبية والصناعية فقط.
منع أي استخدام ترفيهي أو غير مرخّص.

لكن حتى اليوم، لم تُنشأ الهيئة التنظيمية، ولم تُمنح أي تراخيص، وبقي المزارع في البقاع تحت رحمة الإتلاف والملاحقة، وكأن القانون لم يُقرّ أصلًا.

المفارقة القانونية:

الدولة تُتلف المحاصيل بحجة أنها غير شرعية، رغم أن القانون شرّعها.
المزارع لا يستطيع التقديم على ترخيص، لأنه لا توجد جهة تستقبل الطلبات.
الأجهزة الأمنية تنفّذ الإتلاف، بينما السلطة التشريعية تُقرّ التشريع.

هذا التناقض القانوني يُظهر خللًا بنيويًا في إدارة الملف، ويطرح سؤالًا جوهريًا: هل الدولة جادة فعلًا في تنظيم زراعة الحشيشة، أم أن التشريع كان مجرد خطوة رمزية لتهدئة الضغوط الدولية؟

زراعة الحشيشة: مورد اقتصادي تُتلفه الدولة

في بلدٍ يعاني من انهيار اقتصادي، بطالة متفشية، وتراجع في الإنتاج الزراعي، تبدو زراعة الحشيشة وكأنها فرصة ذهبية تُهدر عمدًا. فبينما تتجه دول كثيرة نحو تنظيم هذا القطاع وتحويله إلى مصدر دخل مشروع، لا يزال لبنان يُصرّ على إتلافه، متجاهلًا ما يمكن أن يدرّه من عائدات مالية واستثمارات صناعية.

السوق العالمية: أرقام لا تُكذّب

تشير تقارير اقتصادية إلى أن سوق القنب الطبي العالمي تجاوز 60 مليار دولار عام 2025، مع توقعات بالوصول إلى 100 مليار دولار خلال السنوات المقبلة. دول مثل كندا، ألمانيا، هولندا، والمغرب شرّعت زراعة الحشيشة لأغراض طبية وصناعية، وخلقت آلاف الوظائف، وصدّرت منتجاتها إلى أسواق عالمية.

في المقابل، لبنان يمتلك:

تربة خصبة في البقاع الأعلى.
خبرة زراعية متوارثة لدى المزارعين.
مناخ مناسب لزراعة القنب بجودة عالية.
يد عاملة محلية تبحث عن مورد مستقر.

لكن بدلًا من الاستثمار، تُتلف المحاصيل، وتُحرم الدولة من مورد يمكن أن يُدرّ ملايين الدولارات سنويًا، سواء عبر التصدير أو التصنيع المحلي.

الصناعات الممكنة:

زراعة الحشيشة لا تعني فقط إنتاج المادة الخام، بل تفتح الباب أمام:

صناعة الأدوية: لعلاج السرطان، الصرع، الألم المزمن.
صناعة الزيوت والمستحضرات الطبيعية.
صناعة الأقمشة والورق من ألياف القنب.
التصدير إلى دول شرّعت الاستخدام الطبي.

كل هذه الصناعات يمكن أن تُخلق في لبنان، وتُسهم في تنشيط الاقتصاد، دعم الريف، وتوفير فرص عمل، إذا ما وُجدت الإرادة السياسية والتنظيم القانوني.

الإتلاف كسياسة مضادة للإنتاج

سياسة الإتلاف لا تُكلف الدولة فقط خسارة مالية، بل تُعمّق الشعور بالظلم لدى المزارعين، وتُفاقم التهريب، وتُبقي الزراعة في دائرة الفوضى. بدلًا من ذلك، يمكن للدولة أن:

تُنظّم الزراعة عبر تراخيص واضحة.
تُنشئ هيئة رقابية مستقلة.
تُشجّع التعاونيات الزراعية.
تُبرم اتفاقيات تصدير مع شركات دولية.

في بلدٍ يُفتّش عن حلول، لماذا نُصرّ على إتلاف الحل؟

الحشيشة كدواء: من التابو إلى المختبر

في عالم الطب الحديث، لم تعد الحشيشة تُنظر إليها كمادة مخدّرة فقط، بل باتت تُصنّف ضمن النباتات الطبية ذات الفعالية العالية في علاج أمراض مستعصية. القنب، بمركّباته النشطة مثل الـTHC والـCBD، دخل المختبرات، وتحوّل إلى مكوّن أساسي في أدوية مرخّصة تُستخدم في عشرات الدول.

الاستخدامات الطبية المثبتة

وفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) وهيئات الدواء الأوروبية والأمريكية، تُستخدم الحشيشة في علاج:

• الصرع المقاوم للأدوية، خصوصًا عند الأطفال (مثل متلازمة درافيه)
• الآلام المزمنة الناتجة عن السرطان أو التصلب اللويحي
• الغثيان والقيء الناتج عن العلاج الكيميائي
• اضطرابات النوم والقلق
• فقدان الشهية لدى مرضى الإيدز أو السرطان

في ألمانيا وحدها، يُصرف القنب الطبي لأكثر من 100,000 مريض سنويًا، عبر وصفة طبية وتحت إشراف طبي صارم.

من النبتة إلى الدواء

الحشيشة لا تُستخدم بشكلها الخام، بل تُحوّل إلى:
• زيوت مركّزة تحتوي على نسب دقيقة من المركّبات الفعالة
• كبسولات دوائية تُصرف بوصفة طبية
• بخاخات فموية لعلاج

الحشيشة والسلطة: من زراعة تقليدية إلى ورقة سياسية

في البقاع، لا تُزرع الحشيشة فقط في التربة، بل في الذاكرة الجماعية. هي نبتة ارتبطت بالهوية الريفية، بالعيش من الأرض، وبالنجاة من التهميش. لكن هذه الزراعة، التي كانت يومًا خيارًا اضطراريًا، تحوّلت تدريجيًا إلى ورقة سياسية تُستخدم للضغط، التفاوض، وحتى الابتزاز.

المزارع بين القانون واللا قانون

المزارع البقاعي لا يزرع الحشيشة حبًا بالممنوع، بل لأن الأرض لا تُنبت غيرها، ولأن الدولة لم تقدّم له بديلًا. ومع كل موسم، يعيش في حالة من الترقب:

هل ستُتلف المحاصيل؟
هل ستُغضّ الأجهزة الأمنية الطرف؟
هل سيُستخدم الملف كورقة تفاوض في الانتخابات أو التعيينات؟

هذا التذبذب يُبقي المزارع في حالة هشاشة دائمة، ويُعمّق شعورًا بالغبن واللاعدالة.

الحشيشة في الخطاب السياسي:

لطالما استُخدمت الحشيشة في الخطاب السياسي اللبناني كرمز للفوضى أو كملف انتخابي. بعض الزعماء يطالبون بتشريعها، ثم يتراجعون. آخرون يلوّحون بها كأداة للتهدئة أو التصعيد، حسب مصالحهم. لكن نادرًا ما يُطرح الملف من زاوية علمية أو اقتصادية أو حقوقية.

في هذا السياق، تتحوّل الحشيشة إلى رمز للسلطة أكثر منها رمزًا للزراعة. من يملك القرار في تنظيمها، يملك النفوذ في البقاع. ومن يُسيطر على الإتلاف، يُسيطر على المزارعين.

سياسات الإتلاف لا تُدمّر المحاصيل فقط، بل تُدمّر الثقة بين المواطن والدولة. المزارع الذي يرى أرضه تُحرق، لا يعود يؤمن بالقانون، بل بالواسطة. وهذا يُكرّس ثقافة الريبة.

في المقابل، تنظيم الزراعة ضمن إطار قانوني واضح، يُعيد الاعتبار للمزارع، ويُحوّل الحشيشة من ملف أمني إلى ملف إنتاجي، ومن أداة ضغط إلى مورد مشترك.

حين تُزرع الحياة في التربة، لا يجوز أن نُتلفها

الحشيشة ليست نبتة خارجة عن القانون، بل قانوننا هو من خرج عن المنطق. في أرضٍ تُنبت الحياة، لا يجوز أن نزرع الخوف. وفي وطنٍ يبحث عن موارد، لا يصح أن نُتلف ما ينمو طبيعيًا، فقط لأننا لم نُحسن تنظيمه.

المزارع لا يطلب إعفاءً، بل اعترافًا. لا يريد أن يُعامل كمجرم، بل كشريك في الإنتاج. والنبتة التي تُحرق كل موسم، تحمل في أوراقها علاجًا، وفي جذورها فرصة، وفي ظلّها سؤالًا كبيرًا: هل نريد حقًا أن ننهض، أم أننا نخشى التغيير أكثر من الخراب؟

لبنان لا يحتاج إلى المزيد من الإتلاف، بل إلى إعادة نظر. إلى سياسات تُنصت لصوت الأرض، لا لصوت الخوف. إلى تشريعات تُنظّم، لا تُجرّم. إلى دولة ترى في الحشيشة نبتة طبية، لا مادة ممنوعة.

ربما آن الأوان أن نكفّ عن محاربة الطبيعة، ونبدأ في احتضانها. فالأرض التي تُنبت الحشيشة، لا تُنبت الفوضى، بل تُنبت الحياة، إذا ما أُحسن التعامل معها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى