مع وصول طلائع القوات الروسية التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي ،بدأت الأحداث الجارية في كازخستان تأخذ منحى سياسيا واضحا يذكّر بالربيع العربي الذي اجتاح عددا من البلدان العربية في أوائل العقد الثاني من القرن الحالي.
فمع تصاعد حدة الاحتجاجات وتحولها إلى أعمال فوضى وشغب في بعض المناطق، أعلنت روسيا وحلفاؤها الخميس، إرسال الكتيبة الأولى من قوات حفظ السلام إلى كازاخستان .
وقال هذا التحالف العسكري في بيان إنه “تم إرسال قوة جماعية لحفظ السلام من منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان لفترة محدودة من أجل ضمان استقرار الوضع وتطبيعه“.
وأوضح أن القوات تشمل وحدات من القوات المسلحة لروسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان ،وهي الدول الخمس الأخرى الأعضاء في المنظمة التي تهيمن عليها موسكو مع كازاخستان.
وكانت كازاخستان شهدت تظاهرات احتجاجية على ارتفاع أسعار الوقود في كل أنحاء البلاد.وذكرت قوات الأمن إن “كثيرين من عناصرها لقوا مصرعهم في الاضطرابات التي سقط فيها عشرات القتلى من مثيري الشغب المناوئين للحكومة”.
وأثارت السرعة التي تحولت بها التظاهرات إلى العنف دهشة كثير من المراقبين سواء في الداخل أو الخارج، وأومأت إلى أن الأمر أكبر من كونه مجرد ارتفاع في تكلفة الطاقة.
وقد بدأت التظاهرات بعد ما أقدمت السلطات في كازاخستان الغنية بالنفط على رفع أسعار غاز البترول المسال، والذي يستخدمه كثيرون لسياراتهم، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية.
واندلعت التظاهرات في منطقة واحدة يوم الأحد، وبحلول الثلاثاء كانت أنحاء كازاخستان تعجّ بتظاهرات شهدت صدامات مع الشرطة.وسرعان ما تحوّلت التظاهرات إلى العنف مع لجوء الشرطة للغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت ضد الآلاف من المحتشدين في ألمآتي ، أكبر مدن كازاخستان وعاصمتها السابقة.
وبحلول الأربعاء، أُعلنت حالة الطوارئ، لكن الآلاف استمروا في النزول للشوارع. وأفادت تقارير بانقطاع خدمة الإنترنت في أجزاء عديدة من البلاد.
وحلّ الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف الحكومة، ملقيًا عليها باللائمة في وصول البلاد إلى حالة الاضطراب، ووعد بعودة أسعار الوقود إلى ما كانت عليه من انخفاض “حفاظا على استقرار البلاد”.
وردّ المتظاهرون باجتياح مكتب عمدة ألمآتي، ونهب محال تجارية، وبإضرام النار في سيارات.
تُعتبر كازاخستان الغنية بالنفط والغاز، وإحدى دول الاتحاد السوفييتي السابق، أكثر البلاد تأثيرًا في منطقة آسيا الوسطى.وتسهم كازاخستان بنحو 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة. وغالبا ما يوصف نظام الحكم في كازاخستان بالسلطوي.
وتأتي كازاخستان في المرتبة التاسعة عالميا من حيث المساحة(2.7 مليون كلم مربع)، لكن تعداد سكانها صغير نسبيًا عند 18.8 مليون نسمة.
وأعلنت كازاخستان استقلالها عام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتي.وتولى نور سلطان نزار باييف قيادة البلاد لسنوات عديدة كأول رئيس وزراء في عام 1984، بينما كانت كازاخستان لا تزال جمهورية سوفيتية.
بعد ذلك، أصبح نور سلطان رئيسًا عبر انتخابات غير مطعون في نزاهتها، وشهدت فترة حكمه عوامل تمجيد لشخصه، وشيدت تماثيل له في عدد من الميادين في أنحاء البلاد، وسُميت العاصمة الجديدة(آستانا) باسمه.
وفي عام 2019، تنحى نزار باييف عن السلطة، وسط تظاهرات نادرة مناوئة للحكومة، حاول الرئيس إخمادها بالاستقالة.وجاء توكاييف، خلفًا لنزار باييف، عبر انتخابات مبكرة واجهت انتقادات من مراقبين دوليين.
وعلى الرغم من أنه لم يعد رئيسا لكازاخستان، لا يزال نزار باييف مؤثرا في المشهد الكازاخي. ويرى مراقبون أن التظاهرات الراهنة تمثل احتجاجا موجّها ضده في الأساس.
ومنذ استقالته قبل ثلاث سنوات، لم تشهد السياسات في كازاخستان سوى القليل من التغيرات، ويستاء كثيرون من غياب إصلاحات، ومن تدني مستوى المعيشة، ومحدودية الحرية المدنية.
وتتمخض معظم الانتخابات في كازاخستان عن فوز الحزب الحاكم بنسبة تناهز أحيانا 100 في المئة من أصوات الناخبين، في غياب معارضة سياسية فاعلة.
وقد جاء ارتفاع أسعار الوقود، التي طالما كانت في المتناول، لتمثل القشة التي قصمت ظهر البعير في كازاخستان.
ماذا يريد المتظاهرون؟
وعلى الرغم من حلّ الحكومة وإعادة أسعار الوقود إلى ما كانت عليه، لا يُبدي المتظاهرون نيّة لمغادرة الشوارع.والواضح أن المتظاهرين تعلموا من درس 2019 عندما استقال نزار باييف، أن تغيير الحكومة لا يأتي بالضرورة بنتائج مرغوبة.
وقد حدد الناشطون خمسة مطالب أساسية:
1 – تغيير حقيقي للحكومة
2 – انتخابات مباشرة لحكام المقاطعات (الذين يعيّنهم رئيس البلاد في الوقت الراهن)
3 – عودة دستور 1993 الذي حدّد فترات الرئاسة وسلطات الرئيس
4 – عدم اضطهاد الناشطين المدنيين
5 – السماح بشغل مناصب لشخصيات لا تربط بينها وبين النظام الحالي علاقة
ولا يبدو أن لهذه التظاهرات قيادات واضحة. وبحسب مراقبين، تتم الإطاحة مبكرًا بكل المعارضين في كازاخستان، بحيث لا تتأتى فرصة لعملية انتخابات ديمقراطية حقيقية في البلاد.
وبدا ان السلطات في كازاخستان كانت تحاول حلّ الأزمة دون اللجوء إلى العنف الشديد.لكن سرعان ما تبدّل الأمر بعد أن اتهم الرئيس توكاييف المتظاهرين بالانتماء “لعصابات إرهابية تلقّت تدريبًا في الخارج”.
وطلب توكاييف دعمًا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي .ويعني ذلك أن قوات بقيادة روسية بدأت الانتشار في كازاخستان من أجل إعادة الاستقرار إلى البلد .
وشرعتْ قنوات إعلامية روسية عديدة في الترويج لوجهة النظر القائلة إن التظاهرات التي تشهدها كازاخستان هي “بتحريض من القوى الغربية”.
وباعتبار كازاخستان مصدرّا رئيسيا للغاز، والنفط، والمعادن، يتعين عليها أن تولي اهتماما بعنصر ثقة المستثمرين الذي يعتمد على الاستقرار السياسي.
لكن يبدو أن كثيرين من الكازاخيين قد سئموا العيش في ظل سياسات الرئيس السابق نزار باييف، وأنهم مستعدون للنضال من أجل تغيير حقيقي.
قع كازاخستان في قارتين، الجزء الشمالي في آسيا الوسطى والجزء الغربي في أوروبا الشرقية. لها حدود مع الصين وروسيا، إضافة إلى أوزبكستان وقيرغيزستان وتركمانستان.
وتُعَدّ الصين أحد أهم الشركاء الاقتصاديين، خاصة بعد مبادرة الحزام عام 2013. وتعتبر حليف استراتيجي رئيسي لموسكو.
وتُعتبر الجمهورية التي تمتد على مساحة 2.717.300 كلم2،أكبر الدول الاسلامية من حيث المساحة، ومن أغنى دول آسيا الوسطى بالثروات الطبيعية، النفط والغاز الطبيعي واليورانيوم والمعادن النفيسة، ويشكل النفط 21 % من إجمالي الناتج الداخلي للبلاد عام 2020، بحسب البنك الدولي الذي توقع نمو الاقتصاد بنسبة 3,7% هذا العام.
وينتج أبرز حقل نفطي في البلاد “تنغيز” ثلث الناتج السنوي لكازاخستان وتسيطر على 50 % منه شركة شيفرون الأمريكية.
وبالرغم من الاحتياطات النفطية، تعاني الجمهورية من الأزمات المالية، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد حوالي 600 دولار شهريا، بينما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي حوالي 179 مليار دولار العام الماضي.
ويعاني النظام المصرفي من أزمات معقدة نتيجة القروض المتعثرة وقضايا الفساد المنتشرة.