رأي

مؤسّسات إختصاصُها الشاي …(حيان حيدر)

 

بقلم د.حيان سليم حيدر – الحوارنيوز

 

المقدمة / التعريف / الأدوات

     أنشئ صندوق النقد الدولي ومن إنشغالاته الإهتمام بأحوال القطاع الخاص وإيراداته المستقبلية، وكلّه ضمن مفهوم “السعي” إلى مساعدة الدول على حلّ مشاكلها المالية والإقتصاد العام.  وقد جاء في مهامه (المتشعِّبة): سيادة القانون، مكافحة غسْل الأموال، الإدارة المالية العامة.. وكلّها “عدة شغل”.

     ومن الأدوات أيضًا: إصدار تقارير عن الفساد، واقتراح حلول لضبطه وكلّ ذلك وفقًا لدفتر شروط “دقيق” المواصفات.

     والصندوق يعتمد أيضًا على تقارير تصدر عن مؤسّسات تصنيف خاصة، ذاتية التكليف، ترفع من الشأن المالي لدول ولمؤسّسات مالية حسب الرغبة، وتطيح بالمرتبة الإئتمانية لبعضها الآخر، غبّ الطلب، وما أدراكم رغبة وطلب مَن؟

     ومن “الأخلاقيات” الكلامية للصندوق، كلمة إمتثال: فهناك تقارير إمتثال مصرفية ومالية وهي تعني تنقيذ الأوامر بحذافيرها والخضوع لها من دون مساءلة.

     وفي المعالجات، يقدّم الصندوق القروض الميسّرة، (؟)، قروضًا لآجال طويلة ودائمًا ضمن شروطه، وقد وصف إقتصادي ذي شهرة عالمية الأمر بالقول: “إنّ المساعدات الدولية هي إنتقال الأموال من جيوب فقراء الدول الغنية إلى جيوب أغنياء الدول الفقيرة”.  وهل من أوضح من ذلك؟

حلول نموذجية معتمدة

     في صلب “النزعة النيوليبِرالية” لمؤسّسات التمويل الدولية، غالبًا ما تكون الحلول عبارة عن:                                                                زيادة الضرائب على انواعها ومراميها، واستخدام الإيرادات المستقبلية والأملاك العامة للدولة المأزومة لسداد الخسائر التي تسبّبت بالأزمة والتي لم ولا يحاسب عليها أحد، وبالتالي يبقى من الطبيعي أن يقع “الجمهور” في الخطأ نفسه بعد حين، أي بعد “ترقيع” الأمر مرحليًّا.

     ومن الحلول أيضًا تحفيز الدولة المأزومة على تعليق دور القطاع العام في الإقتصاد تحت مسمّى “ترشيد” الإقتصاد أو ترشيق القطاع العام، وتحسين الحوكمة، لا فرق.  

     وفي هذا السياق يتم تصنيف المؤسّسات التابعة للقطاع العام إلى: مؤسّسات يجب تصفيتها، أو دمجها، أو تحويلها إلى مؤسّسات عامة تخضع للحكومة مباشرة.  والخلاصة: الحدّ من دور الدولة في الإقتصاد من طريق تحجيم دور الوزارات وتحويل المؤسّسات العامة إلى شبه شركات خاصة، ولا ننسى إضافة الهيئات الناظمة لكونها مؤسّسات على طريق الخصخصة.

     ودائمًا ما يغيب عن حلول الصندوق: أنّ ليس هناك من ذكر للوظيفة الإجتماعية والتنموية للقطاع العام فالكلام محصور بـ : الربحية، الأداء المالي، الكفاءة المالية، المخاطر المالية.  وعندما تسأل عن رفاه الشعب، وعن تأمين حاجاته الأساسية، وعن التنمية، يأتيك الجواب – اللّازمة: هذا ليس من شأننا، فالصندوق “إختصاصُه الشاي” (*).

ونبدأ.

في العموم

     نسأل أو نتساءل عن ضرورة وجود الملاذات الضريبية (أم هي ملذّات، وفي الإنكليزية تُسمّى جنّات ضريبية) وليشرح لنا الخبراء لماذا كلّ عضو في الإستعمار الغربي لديه ملاذات ضريبية مصمَّمَة بدقة للتهرّب الضريبي ومن الرقابة على تبييض الأموال، وهو يتحكّم من خلالها بأموال بلاده وأموال البلدان التي كانت مستعمرة من قبله وهي الآن لاجئة إلى جنّته، وهو يسمح لها بإعفاءات ضريبية ويلغي الإجراءات التي تحول دون تهريب الأموال والممنوعات؟

     ثمّ أين المليارات التي أعلنت عنها أدواتها من منظمات أهلية (أنْجَزْ القوم NGOs) والعائدة لدولها، والمسروقة من قبل الدكتاتوريين المخلوعين، وبعد انقضاء عقود من الزمن، لماذا لم تعد هذه الأموال إلى دولها وشعوبها وأصحابها الذين نُهِبَت منهم بتعليم وتدريب وإشراف من المستعمِر السابق صاحب الملاذ، والأموال تابعت سيرها من جيوب المواطنين إلى خزائن الحكام فإلى “إستثمارات” “آمنة” (قيل) في بلاد الغرب؟

أمّا في لبنان

     ملاحظات مبعثرة: لدينا قانون ضريبي مرّ عليه مئة عام من دون تحديث ولا كلام حتى عن النظر فيه. نتعامل مع الأعراض الظاهرية للإنحرافات البنيوية للإقتصاد اللبناني..

     طبعًا لا علاقة للصندوق بـ “مبدأ” المحاصصة والطوائفية في التعيينات وبالتالي في توزيع المغانم !  ثم أنّ هناك إختلافا في أطر الحوكمة باختلاف المراسيم والقوانين المتعلقة بكلّ من شركات الدولة ما يزيد من صعوبة الرقابة في الأداء والمساءلة.  هذا ولم نتطرّق بعد إلى التسليم بما يعرف بـ “خيوط الأمان” والمواصفات الأمنية والأرقام التسلسلية التي يشرف عليها خبراء في واشنطن وبازِلْ (Basel) حصرًا.

أسئلة: مَن قال أنّ السيادة يجب أن تُستورد؟  ومَن منح الصندوق الحقّ في فرض شروطه وتحويل العملة إلى أداة إذلال بربطها مباشرة بعقوبات غير قانونية وآحادية القرارات والصدور وعمومية التطبيق؟  … وشبّيْك لبّيْك بريتون وودز (Bretton Woods) بين يديك.

     المشكلة ليست فقط في “القيادات” اللبنانية الفاسدة، المشكلة باتت في صندوق الشاي الذي يجري نفس التقارير ويقترح نفس الحلول على نفس القيادات، الفاسدة، وعلى نفس الناس، الغافلين، وينتظر، وإيّاهم، نتائج مختلفة… أسكب الشاي يا غلام !

     وهل يعلم اللبناني أنّ الصندوق كان قد حذّر الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان في تقريره عن حال الإقتصاد منذ العام 2015 أنّ البلاد هي في حال إنهيار إقتصادي ومالي، لكنه سمح، وما زال يسمح لـ 12 دولة في العالم، بعدم نشر التقارير الخاصة بها: قمة الدرس في مكافحة الفساد !  وسنة وراء سنة، مع صدور كلّ تقرير للصندوق (الفرجة)، يتسلّق لبنان صعودًا سلّم الدول الأكثر فسادًا حتى أصبح في عداد الثلاثة الأول، والعقبة للمركز الأول.

     وللعلم، فإنّ الإصلاحات التي يطلبها الصندوق دائمًا ما تتضمّن الهدف السياسي والإقتصادي والمالي وهي نوع من شرّ لا بد منه، يوحي للدول الخانعة بأنّ برّاد الشاي هذا هو ممرّ إلزامي للعلاج… الوحيد. 

ولمزيد من التأكيد يرجى مراجعة كتاب السيد جون بيركينز بعنوان “إعترافات قنّاص إقتصادي”

 (Confessions of an Economic Hit Man – John Perkins)

     وفي العلاجات يشترط الصندوق إصلاحات ومنها إصدار قانون لتوزيع الخسائر، الودائع والدولة، من دون أن يتطرّق إلى محاسبة مَن تسبّب بالخسائر … فيما يتغلّب اللبناني على أهل الصندوق فيسمّون مشروع قانون سرقة الودائع بـ “قانون الفجوة المالية”، أي أنّ المواطن كان يسير على الطريق العام وفوجيء بفجوة في عرض الطريق سقطت فيها ودائعه.  وهذا كله بعد أن عجز، خلال ستّ سنوات، من تنظيم وإصدار قانون الـْ كَ. كَ. (المعروف بالكابيتال كونترول) الذي عادة ما يصدر ويُطبّق في الدول المأزومة ماليًا في أول أسبوع من وقوع الأزمة.

     ماذا عن الرؤية الإقتصادية، تسأل؟  وتلتمع عينا اللبناني الحالم بالإزدهار فيصرخ “وهل هذه الحلول بالعملات الأجنبية؟  اليورو، الين، اليوان، الروبل، الدينار، الـ…؟  وأمامه الصندوق مفتوح؟  ولا أبهى: ألوان زاهية وعناوين رنّانة: أخضر، أسود، أصفر، أحمر، بنّي … ليأتي الجواب المُخيب: لا… لا… هذه كلها من صندوق الشاي.  المزيد من الشاي ولكن بألوان مختلفة وهي كفيلة بترميم النموذج الذي أثبت فشله ولكن تحت تسمية “عملية تصحيحية”.

     ثمّ ياتيك التقرير: “فشل يستدعي إجراء تغيير في نموذج الإقتصاد”.  ومعه: “بات علينا تحديث خطة ماكينزي”.  ويهفّ القلب بالسؤال: هل سنتحوّل إلى إقتصاد منتج؟  هل سنتوجّه شرقًا ونتحرّر من هذا الطوق الإقتصادي الخانق؟  ليجاوب الصندوق: لا، هناك خيارات متعددة، فهناك أفضليات حسب إحتياجات الدول، ومن التشكيلات المعروفة العلاج الروسي بالليمون الحامض، والإنكليزي بالحليب عند الفطور، والمغربي بالنعناع، والإيراني في السماور، والصيني بالياسمين… وكلّها شاي، غير أنّ ، إطمئنّ، هناك تجدّد دائم، فإليك بجديدنا: الـ”ماتشا ” (Matcha)!!!  آخر الوافدين من اليابان.

     ونسأل، مع محبتنا للشاي: متى يسقط مبرّر وجود هذا الصندوق؟

     أخيرًا كلمة حقّ يجب أن تقال لبعض الأصفياء المشهود لكفاءاتهم من مستشاري الصندوق الذين ما زالوا يؤدون وظيفتهم على “أكمل وجه”: قد يكون لبنان البلد الوحيد الذي يبدو فيه الصندوق أحرص من كثرٍ من المسؤولين اللبنانيين ومن مستشاريهم على مصلحته، وبعضهم كانوا وزراء على مرّ الحكومات…

     قد !  

بيروت، في 16 آب 2025م.                                                                      حيّان سليم حيدر

____________________________________________________________________________

(*) يُروى عن تاجر فضول دخل على والي بلاد “الرمق الأكيد” فرآه وحيدًا من دون حرس وحاشية فبادره مستغربًا الأمر وقد زاع سيطه المهيب أنحاء البرية، فجاوبه الوالي أنّ لا حاجة له بكلّ وسائل البهرجة هذه وهو لديه هذا المارد.  واستدعى المارد الشبّيك لبّيك، ولدى السؤال، أمره الوالي بإحضار الشاي للضيف، وهكذا كان.  فأبدى الضيف كبير إعجابه للأمر فما كان من الوالي إلّا أن عرض عليه: هل تشتريه؟  أبيعك إيّاه بمليون من الدنانير.  فاستجاب المعجب الملهوف واستمهل الوالي بضعة أيام ريثما يأتيه بالمبلغ.  وعلى الفور نشر الخبر في العائلة والمحيط وجمع طلبات المريدين، هذا يريد منزلًا فخمًا وذاك يبغى سيارة فارهة والعمة تريد فتح مطعم وكلّ بثمنه والتاجر الفضول يجمع دفعة على حساب كلّ من الصفقات. 

ولدى جمع المليون ذهب إلى الوالي وأتمم الصفقة وعاد بالمارد وطموح المنتظرين شاخصة إلى إتمام المطلوب.  وباختصار سلّم المالك الجديد مارده لائحة الطلبات.  فحدّق فيها “الّلبيْك” ثمّ إعتذر مصرِّحًا أنّه لا يمكنه تلبية هذه الطلبات لأنّ إختصاصه تقديم الشاي… حصرًا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى