ديمقراطية الصندوقة ..وسطوة الوكلاء (حيّان حيدر)
بقلم د.حيّان سليم حيدر – الحوارنيوز
في البدء كان الرأي ومعه جنح الناس للإنتصار لرأي معين: تجمعهم وتفرّقهم ميولهم، نزعاتهم، مصالحهم. ثمّ كانت الحاجة إلى فرز الآراء وإلى تأطير الإتّجاهات، فكانت مختلف نظم ما عرف لاحقًا بالديمقراطية.
في أجواء هذه البدايات وقبيل ترسيم الدول إنطلقت عادات قبلية وتقاليد عشائرية فحكمت عالمًا أوليًّا مكوّنًا من مُدُن ومجموعات بشرية. ثم عرف عصر “بيريكليس” بعهد إنتصار الديمقراطية، بعد إعتماد الإنتخابات الشعبية وسيلة لإنتقاء الحاكم في أثينا، أواخر القرن الخامس قبل المسيح !
فكانت الصندوقة، تلك الأداة العجائبية، ومعها جاءت الجماهير بأفضلياتها السياسية فانوجدت الحاجة إلى فرز توجهاتها. كلّ ذلك تطور إلى إعتماد الإنتخاب، وسيلة “صوتية” للعملية الديمقراطية. وذهبت المصالح والميول لتُفلسفَ نظم ديمقراطية، تمّ ويتمّ تفصيلها كلّ حسب مقاس صاحب المصلحة وموقع القرار.
وبلج عصر الكلمة السحر: الديمقراطية (يا هلا باليونان العتيق). وكانت أبسط وسيلة إليها “الصندوقة” – صندوقة الإقتراع – ثمّ تعدّدت صنوف التعبير عنها. فمنهم مَن بناها على أساس الأكثرية العددية، ومنهم مَن تسرّب إلى النسبية. وتطوّرت الأمور والأساليب ليعرف العالم بجميع دُوَلِه الإنتخابات على أشكالها: نظام رئاسي، برلماني، جماهيري، حزبي مركزي، فيديرالي، كُنْ فيديرالي، كانتونات، تعدّدية، توافقية، واللغة العربية غنية، واللائحة ستبقى طويلة ومفتوحة على الإضافات ومعرّضة للإختراعات “التشريعية” الخلّاقة.
وإختبر العالم، على إختلاف دوله وأقوامه وأممه ومشاكلهم، كلّ ما سبق من أنظمة، وغيرها، وخاصة خلال قرن الحربين العالميتين. ونتج عن ذلك صراعات في التوجّهات السياسية والعقائدية الفكرية والإقتصادية والإجتماعية إلى أن قرّر “كبار” أقوياء العالم، سلاحًا وإقتصادًا، بأنّ هذه الديمقراطية بالذات هي عقبة أمام هيمنتهم على العقول والثروات وأنماط الحياة وغيرها من الأمور.
وما هو الحلّ إذن، جاء السؤال؟
وبعد بحث مستفيض دامٍ ومدوٍّ، كان الحلّ بتجاوز الديمقراطية، أي بإلغائها. وهكذا كان، رويدًا رويدًا، إنزلق “النظام العالمي الجديد”، الذي لا يكلّ من التجدّد ولا يملّ، لجأ إلى إلغاء مفعول الإنتخابات وسيلة لتطبيق الديمقراطية، فكان؟… كان التعيين بالنيابة عن رأي جماهير الصندوقة وخياراتهم.
“وَفَلَتَ الملقْ”.
نحن الآن نعيش في عالم يحكمه أشخاص غير منتخبين، بل مختارين من قبل قوى كبرى، أصحاب القرار في الدول الفاعلة، ومعهم شركات عالمية عملاقة وما شابه، متسلطة من دون أيّ حقّ قانوني، أو ديمقراطي، على مصائر البشر.
ونعدّد أهمّها على سبيل الذكر وليس الحصر، مع الإعتذار سلفًا عن السهو…:
البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الأمم المتحدة وجميع المنظمات والوكالات المنضوية تحت لوائها وعملها وأهدافها، المنظمات والتجمعات والمجالس الإقليمية مثال الإتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، المجلس الإفريقي، المؤتمر الإسلامي، مجالس تعاون جهوية وما إليها.
وبعد معاناة وصراعات، أصبحت المناصب المفتاحية العليا فيها، وأهمّها الإتحاد الأوروبي (27 دولة عضو) والحلف الأطلسي (32 دولة عضو) والبنك الأوروبي وما شابه، أصبحت كلّها غير منتخبة بل معيّنة من الحاكم الأعلى الذي يقرّر فعليًّا مصائر دول العالم وشعوبها بحضور، أم هو بغياب، المجالس المنتخبة لتلك الشعوب.
لقد إستبدل هذا النظام المتجدّد أبدًا الإنتخابات بإستطلاعات الرأي مستندة إلى إحصاءات بالعينة. ونترك لخيال القارىء مهمة إكتشاف مَن يتلاعب بالنتائج عبر تحديد الأسئلة وإنتقاء العينة.
أمّا الرأس المدبّر، الآمر الناهي، فيُنْتَخَب من طريق نظام يحصر فيه الرأي والرأي الآخر في حزبين رئيسين، حيث تبقى العملية الإنتخابية رهينة تمويل مرشحَيْ الحزبين. وأما التمويل؟ فجُلُّه يتوفّر من خلال ما يعرف بـ”اللّوبيات”، من كلمة Lobby، وما أدراك ما اللوبي. هو الغرفة أو قاعة الدخول أو المرور وليست حتى الصالون الرئيسي، أو الغرفة الصدرانية على وصف الروائيين، بل ردهة الإنتظار، أو أنّها “ممرّ التلاقي بالصدفة” ممّا يوحي أنّ القرارات التي تتّخذ فيها ومن خلالها هي وليدة صدفة اللقاء أو التقاطع، وهوالمقصود، وهي تؤخذ بعُجالة أي “على الطاير”، وهذا أيضًا مخطّط له سلفًا، ولا وقت لمناقشة تفاصيلها، وهو الهدف، حتى أنّ كلّ مَن فيها هو (أو هي) في حركة إنتقالية “مِن” (موقع كان…) “إلى” (مأرب يروم إليه)… وهكذا… تُنجز الأمور في الكواليس. ويأتي نتاج هذه العملية ليحكم العالم “ديمقراطيًا”.
طبعًا، نحن في العالم العربي لدينا مفهومنا الخاص لممارسة الديمقراطية وعملية الإنتخابات، كما ولنا مفهومنا المتمايز، في كلّ قطر من أقطارنا، عن “الصندوقة”. ولكن هذا ليس المجال المناسب للحديث عنها.
أما لبنان… مهد الديمقراطية وفيه “أمّ الشرائع”، فممارسته لها عجيب وغير غريب، بين تأجيل وتمديد وإلغاء، وطعون لا تشفي ومجموعة من الإجراءات التي لا تجدي نفعًا في الممارسة الديمقراطية.
وزيادة في الإحتياط، أي كي لا يكون أيّ ذرّة من الممارسة الديمقراطية، فقد أوكل لبنان هذه المهمة الأعلى (درجة)، أي إنتخاب رئيس للجمهورية من قبل مجلس نواب منتخب “ديمقراطيًّا” من الشعب (اللبناني للملاحظة)، أوكلها إلى دول خمس التي باتت “دستوريًا” معروفة بالخُماسية (لمزيد من التفاصيل يرجى العودة إلى مقالتنا الصادرة في 29-11-2023 بعنوان ” طوالستان، الكَموج وأخواتها…” ، علمًا أنّ الدول الخمس (لا علاقة بالزكاة) جُلّها لا تعرف الإنتخابات وإذا عرفت نثرة منها فلِتترحّم على النظام الديكتاتوري برمّته.
نعم. لقد أصبْتَ أيها القارىء الصبور، فإنّ كلّ ما سبق وقرأته هنا كان بمثابة مقدمة لما يأتي.
لقد أعطى اللبناني صلاحية إنتخاب رئيس البلاد إلى نواب الأمة. هذا وفقًا للدستور ولنتائج الصندوقة. وإن درجت القاعدة أن يأتي الرئيس بترتيب خارجي لحْظوي وظرفي.
ولكن، رأى اللبنانيون أن يكسروا رتابة الممارسة السياسية فتنحّوا ونحوا نحوَ العالم “المتحضّر” في إلغاء الإنتخاب وإنتداب الخارج لهذه المهمة. وزيادة في الإحتياط، أي كي لا يفشل التخريب أبدًا، تُرِكت مهام إنتخاب رئيس البلاد لعدد من دول الخارج، بل لمندوب، يتبدّل دوريًّا، من تلك البلدان، قيل أنّها (الدول) معنية بالأمر، ولا أحد يعرف ما هي المواصفات التي تجعل من بلد خارجي معنيًّا بأمر داخلنا، ( وبقيت المواصفات المعنية خفية على اللبناني، المعني الأول). فكانت الخُماسية… التي تستبطن في داخلها سداسية، بعد التأكيد أنّ الموضوع برمّته لا علاقة له بمقولة “ضَرْب الأخماس بالأسداس”.
أما الطامة العظمى، فتكمن في أنّ غالبية الوكلاء لا علم لهم بممارسة الديمقراطية وفقًا للدستور ومبدأ الإنتخابات ولا يعترفون بها أداةً لتنظيم وإدارة الحكم، وكلّ منهم يعمل بمواصفاته الخاصة لشخص الرئيس وهي مختلفة عن مواصفات الآخر وهي خاصة غائبة عن مطالب الشعب… المحتار.
وبات لبنان العجيب في السنة الثانية من تصريف وقته… والعدّاد ماشي… والبلد ماشي !
بيروت، في 7 نيسان 2024م. حيّان سليم حيدر
مواطن ما زال يبحث عن فسحة من الأمل