بقلم طلال سلمان
ربّما لا يتعب اللبنانيون عموماً، وبعض النخبة من أبناء الأقطار العربية الأخرى، من السؤال عن “الرئيس”، عن صحته، عن صمته، عن احتجابه الذي أتعبهم إلى حد أن كثيراً منهم اعتبروا أن هذا “الغياب” لا علاقة له بالمرض، بل هو موقف احتجاج أو اعتراض على ما جرى ويجري في هذا الوطن الصغير ومحيطه العربي المضطرب …حتى لا عين ترى ولا قلب يضطرب، كل يوم، ويعجز أو يرفض تلقيها بالصراخ أو بالتوجع، مكتفيا بالهمهمة.. ومواصلة المهمة المقدسة في مواجهة الوجع مهما اشتد ومهما طال مكوثه وكأنما طابت له … الرياضة.
لكأن المباراة مفتوحة بين سنوات عمر سليم الحصّ وبين وجع الوحدة وألم الفراق ونكبة أن تكون وحدك في مواجهة الانكسارات والانتكاسات التي تضرب الأمّة في أقطارها المختلفة، والأوجاع التي تسري في أنحاء جسدك مع الدم والنفس.
ولطالما أخذك وجع الغياب إلى التساؤل: لماذا فُرض على سليم الحص أن يتحمل كل هذا العناء؟ وطوال هذه السنوات؟!
هل رحلة العودة إلى البدايات متعبة واشدّ إيلاما من وجعها اليوم ومن عذابات السجن في قلب الوجع ومعه؟!
وإذا ما سلمنا جدلاً بأن العذاب والوجع والخدر الذي يمنعك من النوم وان هو أعجزك عن الحركة وعن التفكير الذي يؤدي إلى اكتمال الفكرة.
هل من حق سليم الحص أن يسأل عن الذنب أو الذنوب التي ارتكبها فاستحق عليها هذا البلاء.
انه لم يقتل، بل انه أعجز من أن يفكر بالقتل، وهو لا يملك من السلاح إلّا “جفت” للصيد ولإبعاد الثعالب وأبناء آوى عن المنزل المنفرد وضيوفه، ويستخدمه غيره في صيد الطيور في حين يرعى “دولته” العصافير وكأنها من رعاياه..
يعرف سليم الحص أن ذنوبه خطيرة وأنها امتدت وتمددت وانتفخت حتى كادت تملأ عليه البيت والمكاتب وصولاً إلى سرير النوم.
ويعرف أن خصومه كثر في بيروت وكل لبنان، وفي دنيا العرب عموماً فنموذجه مزعج، انه لا يرتاح ولا يريح، لا يمد يده إلى المال العام ويحتقر اللص والسارق، الراشي والمرتشي، والمتباهي بأنه قد حقق لنفسه ما يريد ولأسباب مختلفة ليس بينها الكفاءة والأهلية.
ليست هذه الكلمات تعبيراً عن عاطفة شخصية وتقدير عال لرجل قل نظيره بين من عرفنا في دست الحكم، أو في العمل السياسي عموماً، فهو يقرأ فيفهم ويحلل ويستنتج وهم لا يقرأون فان قرأوا لم يفهموا.
لم يعرف الحقد مع انه كان يتجنب التعامل مع من لا يحترم.
هو القارئ المتابع للحركة الفكرية، الشغوف بالمبتكر والمبهر من الآراء والأفكار، الناقد، المثقف، الدارس المحاضر، مترجم الأرقام، قارئ النوايا والأغراض، البريء حتى السذاجة مع بسطاء الناس: لم يعرف التعالي والتباهي بالمناصب ولم يتعبد للدولار وظل يرى في الفقراء أهله وان شاغلته مساءلة أثرياء الصدف والصفقات.
عاش حياة طبيعية، لا ترف فيها، ولا تطلع إلى الثروة أو المناصب أـو استغلال النفوذ، وكما أتقن قراءة الأرقام وفهم دلالاتها فهو قد اجتهد في قراءة النوايا واستكشاف الأغراض.
لم يتعبد إلّا لربه ولم يرَ أحداً أكبر من أهله أو بلده.
وأمّا في الظُرْف فهو من أهله، راوياً ومستمعاً، مجتهداً ومستمتعاً.
لم يكن من أهل القصور أو ساكنيها، ولعله لم يكن يحبهم، على أن أمرهم لم يشغل باله، وان كان قد اجتهد دوماً في الابتعاد عنهم وان يبقى قريبا ممن يشبههم ويشبهونه.
قارئ متميز في فهم المراد،
أمّا في الكتابة، فهو متميز في أسلوبه السهل الممتنع الذي لا تأخذه الإطالة إلى الملل ولا هو يدخل مع القارئ في امتحان الذكاء..
ظلت جراحه تنز سنوات.. نزف بعض دمه لكنه ازداد شرفاً في موقفه وكبراً في قراراته.
أعطته دنياه أكثر مما كان يطلب، وأعطى موقعه في السلطة أو في المجتمع فوق ما أعطى الكثيرون من دون مباهاة أو مفاخرة.
القارئ بامتياز، الكاتب بأناقة، يتقن التورية والتعبير بالنقاط وعلامات التعجب والاستفهام.
أغنى العمل السياسي ولم يغتن منه.. أعطى الوطن ولم يأخذ منه إلّا حقه: حفيد واحد يكفي. ابنة واحدة تملأ دنياه فرحاً.
نفتقدك كل يوم، يا دولة الرئيس، ويصعب أن نلاقي بعضنا البعض في غيابك، فقد كنت الجامع بين المتفرقة صفوفهم من المفجوعين بدولتهم وأهلها، الخائفين على الوطن والأمّة، الذين يمضغون آلامهم وأوجاعهم ويهربون إلى أمل ما، ولو متخيل، من واقعهم المفجع الذي يسوقهم إلى اليأس كقطيع ممن تساقطت أحلامهم على الطريق، ولم يتبق لهم إلّا الرجاء بأن تتدخل العناية الإلهية لإنقاذ الوطن ودولته، والشعب وما تبقى من أحلامه في الغد الأفضل.
صعب هو التلاقي من حول صمتك، وكانت كلماتك تضخ الأمل وتحاول إبعاد اليأس بالمساعدة على جمع المتباعدين وإقناع الكل بتجاوز المعطلات لاستنقاذ الوطن ودولته. لأن صمتك، يا دولة الرئيس، إنذار للناس بينما هم عرفوك داعية للتلاقي بين قواه جميعاً على خطة لإنقاذه وحماية دولته من الانهيار.
ولطالما كنا نستمد الأمل من وجودك، ومن دورك في الحكم وخارجه، في الرأي وإدانة المخطئ والمقصر والمذنب فضلاً عن إعطاء المثل بالسلوك الصح والحرص على الشفافية ومحاسبة المخطئ.
نخاطبك ونحن في غاية الخجل، لأن دولتنا قد ولدت – كما عرفتها وخبرتها-مثقلة بالتشوهات.. ولا نجد من نذهب إليه بآمالنا، ونفتقد المؤسسات الدستورية وأجهزة الرقابة والعزم على الإصلاح والكفاءة في من يتولى المسؤولية عما نعانيه.
وما تزال ترن في وجداننا كلمات رئيس الجمهورية في نعي لبنان بدولته ومؤسساتها، وهو خطاب لا ينساه فخامته ولا يتخطاه.
أيها الصامت الكبير وهو يعرف الكثير الكثير مما يُحزنْ ويتعب القلب ويُلحق الأذى بالصحة: لقد أرحت بعزلتك أهل السلطة الذين كانوا يخافونك، فيتحايلون عليك ويخفون أرقام الخيبة والخسارة في حسابات الدولة، ويزورون الوقائع طلباً لتبرئة الذات وإدانة الغير.
لقد أرحت بصمتك الكثيرين من أهل السلطة الذين صنعوا زعاماتهم بالزور والتزوير وطمس الحقائق ومحاولة إسكات الناس بالتخويف بالفتنة والحرب الأهليّة.
إن وجودك، ولو صامتاً، ومعتكفاً يتابع ما يحدث من غير قدرة على التدخل يزعجهم ويذهب بالبهجة التي إستشعروها مع غيابك. انهم يقرأون في صمتك إدانة الناس لممارساتهم، لأخطائهم، لصفقاتهم المهينة.
إنك الشاهد الحاضر المؤهل لان يحاسب المخطئين، المتجاوزين المستهينين بالرأي العام وقدرته على المحاسبة.
انهم يخافون صمتك. يخافون من مجرد وجودك ولو غارقاً في سريرك تحاذر أن تراهم أو تسمعهم حتى لا تفقد صفاء الرؤية.
دولة الرئيس: نكاد نحسدك وأنت متحصن بصمتك لا ترد عليهم، ولا تطمئنهم بالغياب وترفض أن تواجههم لأنك لا تقبل الدنس ولا تشارك في الخطيئة.
يا دولة الضمير:
ها نحن في ابأس حال، بلا حكم ولا حكومة، من في القصر يعاني الوحدة والعجز عن الإنجاز، ومن في مواقع السلطة يفتقد القدرة على القرار.
أمّا من في الشارع، ومن في بيوتهم من الرعايا الخائفين من جائحة المرض ومن إفلاس الدولة وتهاوي مؤسساتها العسكرية بعد المدنية فانهم يجربون الهرب بالهجرة او بالمغادرة في مغامرات غير مأمونة.
دولة الرئيس
نكاد نحسدك على صمتك، خصوصا وأننا واثقون من أن ليس لنا من نخاطبه فيسمع، وليس لنا من نطالبه فيقرر.
.. وصمتك، أيها المنزّه المفرد، الذي لم يطلب لنفسه شيئاً، ولم يقبل أن يكون ” منهم ” فظل “مفرداً” متميزاً بالطهارة، ليس له شبيه ولا هو يطلب أو يريد أن يكون قدوة.
أعظم إنجازاتك يا دولة الرئيس: انك دخلت السلطة سليم الحص وخرجت منها سليم الحص..
.. وأنعشت آمالنا بإمكان الإنجاز، ولو بعد حين.
دولة الرئيس
في السابع من أيلول 1984 كتبت رسالة إلى جراحك التي أصبت بها في المحاولة الإجرامية لاغتيالك، والتي أنجاك منها الله إشفاقا على اللبنانيين..
واليوم نخاطب جراحك، من على البعد، واثقين من أن عقلك ما زال يتعبك ومن أنك تحاول صدّه والهرب منه فيحاصرك الصمت الذي تراه الموقف الأصح في غياب القدرة على الفعل، قدرتك التي يستهلكها الكلام وتعاظم العجز عن إنقاذ غدنا، غد الإنسان في لبنان وفي سائر أرجاء الوطن العربي الذي يكاد يندثر في غياهب الصلح مع العدو الإسرائيلي والانقسام العربي الذي يمكن العدو الإسرائيلي من استرهان العرب ويتركنا جماعات مبعثرة من الأيتام تبكي غدها الذي يضيع منها بينما يومها مرتهن لعجزها.
*كلمة ألقيت بدعوة من “ندوة العمل الوطني” خلال ندوة تحت عنوان “مقاربات تحليليَّة في رؤية دولة الرَّئيس الدكتور سليم الحص للبنان“ وعقدت في السادسة من مساء الاثنين 12 نيسان 2021.
زر الذهاب إلى الأعلى