دسائس تحت جُنْحِ ظلام الحجر الصحّي !!
الهاشمي نويرة- تونس
أكّد لنا رئيس النقابة الوطنية للصّحفيين التونسيين ناجي البغوري أنّ وَضْعَ حريّة الصحافة والإعلام والتعبير عمومًا هو "في غاية الحرج" و"تتهدّده مخاطر حقيقية" وأنّ النقابة الوطنية "مدعومة ومسنودة بعموم الصحفيين ومناضلي حقوق الإنسان والمجتمع المدني ستتصدّى لكلّ ما يُهدّد مكاسب حرية التعبير والصحافة " .
ونعتقد أنّ مردّ ومنبع هذه المخاطر هو ذاته وهو يرجع أساسا إلى عداءٍ فطري تُكِنّه بعض الأطراف لمبدإ الحرّية ذاته ، إذْ ما تنفكّ حركة "النهضة" وما جاورها تجاهر بعدائها للفكر الحرّ ولحرية الصحافة والإعلام والفكر النقدي عمومًا ،
وبدا من الواضح أنّ ما تُعلنه هذه الحركة من حين لآخر من مواقف متشبّهة بالفكر الحرّ والنقدي هو من باب التكتيك والمناورة والرّضوخ الوقتي لضغط حراك المجتمع المدني والتنظيمات المهنية ولإرادة الصحفي في ممارسة عمله بمنأى عن الضغوطات المالية والسياسية والإيديولوجية فَضْلًا عن ضغوطات السلطة بمختلف مستوياتها وهياكلها .
وإنّ المتمعّن في الممارسة السياسية واليومية لعدد من الأطراف في الحُكْمِ وعلى هامشه وعلى رأسها حركة النهضة يقف على حقيقة غير قابلة للدحض وهي أنّ هذه الفئات والأطياف جُبِلَتْ على معاداة الفكر الحرّ والنقدي وحرّية العمل الصحفي تحديدًا وأنّ الإستثناء بالنسبة لها هو الرضوخ والقبول ببعض الحرّية وذلك من باب الإكراه وليس الإيمان بالشّيء .
وفي كلّ مرحلة من المراحل تتعالى بعض الأصوات التي دَيْدَنُها تشويه الحرّية وتعبئة الناس ضدّها تحت عناوين وشعارات مختلفةولكنّها سرعان ما تصمت هذه الأبواق تحت تأثير إرادة الصحفيين وأصحاب الفكر الحرّ والنقدي مدعومين بمكوّنات مجتمع مدني صلب ومنيع وصعب الإختراق .
ولم تكن هذه النوايا الخبيثة لتندثر بل إنّها تجد في كلّ مرّة مداخل لمحاولة ضرب حرّية الرأي والتعبير والإعلام ،
وآخر هذه المداخل إجراءات الحجر الصحّي العام ومنع الجولان وهي من الإجراءات الصائبة لمحاصرة وباء كورونا ولكنّه وقع ويقع – مع الأسف- ابتزازها سياسيا لِتَمَكُّنِ البعض من مزيد إحكام القبضة على مفاصل السلطة والإدارة ولمحاصرة كلّ نفس حرّ ومعارض ومهني ،
ولم يكن قطاع الإعلام والصحافة استثناء بل كان هدفًا رئيسيًا لهذه الأطراف تُمْطِرُهُ بِوابِلِ القصف ولن بهدأ بالها حتّى تبيد آخر نفس حرّ فيه .
بيان مجلس شورى النهضة كان ضربة الإنطلاق لحملة مسعورة صدّ حرّية الرأي والتعبير والإعلام ،
وقد جاء في نقطته الخامسة ما يلي :
"يستنكر (محلس الشورى) عودة الحملات الإعلامية المضلّلة التي تستهدف التجربة الديمقراطية الناشئة ببلادنا ،عبر ترذيل موسسات الدولة ، والفاعلين السياسيين ، ويهيب بشرفاء القطاع المثابرة على الإلتزام بالموضوعية وأخلاقيات المهنة وإبعاد القطاع عن سطوة الأجندات السياسية والإيديولوجيا ومراكز التأثير المالي المحلّي والدولي "
وهذا النصّ فضلا عن تضمّنه لأراجيف وأكاذيب وإدّعاءات ونزعات لزرع الفرقة والشقاق في صفوف الحسم الصحفي هو نصّ يُعيد إلى الأذهان ما كان سائدًا من لُغة خشبية مثّلت على مدى الأحقاب سلاح السلطة في مواجهة معارضيها ومن يختلف معها .
وأمّا عن أصل الموضوع فإنّه من غير المعقول ولا المقبول أن تنتصب حركة "النهضة " لتعطي دروسًا في النأي بالقطاع الصحفي والإعلامي عن الأجندات السياسية والإبديولوجية ،وهي من سعى ويسعى بكلّ ما أوتي من جهد من أجل وَضْعِ اليد على جلّ المؤسّسات الصحفية والإعلامية سواء كانت منتمية للقطاع العمومي أو الخاصّ .
ولسنا في حاجة للتذكير بأنّ الصحافة والإعلام يقفان على يسار الجميع بلا استثناء ، وبأنّ المطلوب من المنتوج الإعلامي هو احترام قواعد المهنة والإستقلالية عن كلّ مراكز النفوذ المالي والسياسي والأيديولوجي بعيدًا عن الحديث عن "موضوعية" مغشوشة،
إنّ الأساس في العمل الصحفي والإعلامي هو الإلتزام بأخلاقيات مهنة يحدّدها الجسم الصحفي ، وإنّ الدروس في الأخلاق تفقد كلّ مصداقيتها إذا كان المنتصب لتلقينها فاقدًا للأهلية القيمية والأخلاقية .
وكان من الممكن أنّ نحسب بيان "شورى النهضة" مجرّد محاولة منعزلة لَوْلَا تزامنه مع أمرين آخرين على درجة من الخطورة نظرًا لتوقيت طرحهما ، فأمّا الأوّل فيتعلّق بمبادرة تشريعية حول استعجال النظر في المرسوم 116 والمتعلّق بتنظيم القطاع السمعي البصري ،
وأمّا الثاني فهو ما تردّد بخصوص بعث فرقة أمنية مختصّة للتقصّي في "الدعوات التحريضية ضدّ مؤسّسات الدولة" ،
وغير خافٍ أنّ استعجال النظر في مبادرة المرسوم 116 غايته الأولى هو تركيز هيئة للقطاع السمعي البصري على المقاس ،
وإذ كنّا لا نبارك جلّ سياسات الهيئة الحالية التي حباها الدستور والقانون بصلاحيات تكاد تكون مطلقة إلّا أنّ توقيت طرح هذه المبادرة التشريعية الآن يُثير أكثر من تساؤل ،
وإنّ تزامنه مع انطلاق الحملة النهضاوية ضدّ القطاع يشرّع الحديث عن شُبهة مؤامرة ضدّ حريّة الرأي والتعبير والصحافة والتنظيم الذاتي للقطاع .
وكذلك الأمر فيما تعلّق بالفرقة الأمنية المختصّةالتي عُهِدَ إليها البحث في "التحريض ضدّ مؤسّسات الدولة" ،
وإنّه من المعلوم أنّ مثل هذه التطوّرات هي أقصر الطّرق للقضاء على أهمّ مكاسب هبّة التونسيين من أجل الكرامة والحرّية : حرية الرأي والتعبير والصحافة .
إنّ مكمن الخطر هو هذا التهديد المباشر للحرية ولملكة النقد في المجتمع وهو ما ينسف مقوّمات ديمومة الديمقراطية وهو ما نعتقد مع نقيب الصحفيين أنّه خطر يتجاوز الحدود الضيّقة لقطاع الإعلام على سِعَتِها ليشمل نظام المناعة المجتمعي وهو ما حدا بنقابة الصحفيين الى التحرّك من توسيع شبكة التصدّي لهذا الخطر الداهم لتشمل مكوّنات المجتمع المدني الأخرى .
إنّ أكبر خطر يهدّد الوطن والمواطن هو الخطر الذي يصدر عن فئة تؤمن بالديمقراطية مرّة واحدة ،
تلك التي توصلها إلى الحُكُمِ والسلطة ، ثمّ تندثر هذه الديمقراطية ، فلا هي ديمقراطية ولا هم يحزنون .