رأي

خيارات العالم بين أميركا والحرب النووية (فرح موسى)

 

بقلم أ.د فرح موسى – الحوار نيوز

 

تجمع البحوث والدراسات الصادرة عن أهم المراكز البحثية في العالم، وهي مراكز كان وما يزال لها الأثر الكبير في صناعة وتوجيه السياسات العالمية.فإذا تابعنا نشرات ودوريات أهم المعاهد البحثية،كالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن،أو معهد دراسات الشرق الأوسط في أمريكا،ومعهد أنتربرايز، ومعهد أبحاث السلام في النرويج،ومعهد استوكهولم في السويد،لرأينا أن هذه المعاهد تشكل مرتكزات للسياسات الغربية،ناهيك مما تطالعنا به جامعة هارفرد من بحوث لتعزيز سلطة وهيمنة الغرب!

وقد تميزت هذه المعاهد بعلاقتها مع البنتاغون وكل مؤسسات الدول ذات النزعة الاستعمارية،ويكفينا من هذه البحوث ما قدّمه”هانتغتون”،في دراسته عن صدام الحضارات،ودراسات برنارد لويس عن الشرق الأوسط،وفوكوياما في أطروحته عن نهاية التاريخ مع الليبرالية الغربية؛فكلها بحوث جاءت وفق مناهج وآليات للتأثير على سياسات الغرب وجعله أكثر عدوانية اتجاه الشعوب المناوئة لسياساته،أو ما يسميه بالإرهاب والتطرف الأصولي،سواء كان مسيحيًا،أو إسلاميًا،من دون أن يكون له أدنى موقف اتجاه التطرف الصهيوني بكل تشكلاته الدينية والسياسية!

إن ما ينفق على هذه المراكز من أموال،وما يرصد لها من ميزانيات جعل منها شريكًا أساسيًا وفاعلًا في السياسة الغربية؛فلم تتوان هذه المراكز عن توجيه البحوث لتكون في خدمة المشاريع الاستعمارية للدول العظمى،ولا نكاد نجد بحثًا يتجرد عن المصالح والأهداف السياسية!ولهذا نجد الغرب المستعمر يخوض الحروب بإيحاءات هذه البحوث، ويؤسس لظهور إيديولوجيات جديدة معادية للأديان السماوية،متخذاً من الليبرالية والديمقراطية عناوين بارزة لنهضته،ومستلهمًا في ضوء مصالحه صياغات نظرية تساعده على تسويغ ذاته بما يخدمه في تعزيز نظرته المادية للكون والحياة،فضلًا عن الإنسان!وهذا ما سبق للباحث الأمريكي”ألكسس كارل”،أن حذّر منه منذ قرن من الزمن في كتابه”الإنسان ذلك المجهول”،إذ تراه يفنّد مزاعم الغرب الحضارية،ويكشف عن طبيعة النزعة المادية القاتلة التي تراود الغرب في تقديمه واهتمامه بعلوم الجماد دون علوم الإنسان والحياة!

وجاءت من بعده نظرية الفقيه الفرنسي”موريس دوفرجيه”،في كتابه،الأحزاب السياسية،والذي يبيّن فيه مدى اهتمام الغرب بالإيديولوجيات البديلة لتغليب الوضعيات على المبادىء والروحيات الدينية في حياة الإنسان! وانطلاقًا من هذا التأسيس الموجز،نرى أن خيارات العالم اليوم ليست بعيدةً عن هذا المنحى البحثي المرتكز أساسًا على المصالح دون المبادىء بتأثير من النزعة الليبرالية التي يراد لها أن تكون بديلًا لكل ما هو حق وخير وعدالة،لكون هذه النزعة متقوّمة بالحريات الفردية،وتشجّع على الاستثمار المادي القاتل لكل روح اجتماعية،وما كتبه”حازم الببلاوي”في كتابه عن الليبرالية المتوحشة يكشف مدى تأثير هذه النزعة ومخاطرها على المجتمعات الإنسانية!ولا شك في أن تبني أمريكا والغرب لهذه النزعة بكل ما تنطوي عليه من أطماع وأنانيات جعلت الغرب على طمع دائم بالحروب لإشباع نهمه المادي والشهواني،وقد أدى انهيار منظومات الاشتراكية،وتصاعد الحركات الإرهابية بدعم غربي إلى تعزيز فرص الليبرالية على نحو مختلف تمامًا عن ما كان عليه الأمر قبل تفرّد أمريكا بالقطبية والأحدية!؟

إن عالمنا اليوم يعيش تفاعلات هذا التحول المخيف في النزعة الغربية،إذ زاد النهم الاستعماري،وتم غزو الشرق الأوسط وكل أوروبا بما مكّن الغرب من فرض أطروحته على كثير من بقاع الأرض تحت عناوين الحرية والديمقراطية ومواجهة أمبراطوريات الشر الجديدة المتمثلة بالحركات الإسلامية!

لقد تغيّر العالم،وتبدّلت معطياته،وتشوّهت معالمه لدرجة أنه لم يعد له من خيار سوى أن يكون أمريكيًا،أو أن يكون صداميًا مع الغرب المستعمر،وما يجري اليوم من حروب ونزاعات،سواء في أوكرانيا،أو في الشرق الأوسط،وما يحيط بتايوان من مخاطر،كل ذلك يؤكد على أن العالم الحر يرفض أن يكون أمريكيًا،وإذا ما أصرّت أمريكا على خيار التفرد بكل ما تعنيه من عولمة فاجرة،ونفوذ،وغزوات،فإن العالم الحر سيجد نفسه مضطرًا لخوض حرب الوجود والقداسة،وبكل الأسلحة المتاحة له لإقصاء نزعة الغرب والحد من نفوذه وحروبه ،وكما يقول المثل الروسي:إن السلام مستمر إلى حرب جديدة،فهل تكون هذه الحرب نووية؟أم أن العالم ومؤسساته العاقلة لا يزال قادرًا على ضبط إيقاع التحولات العالمية،لتكون أكثر توازنًا وعقلانية،بحيث تحفظ المصالح والتوازنات بالشكل الذي يمنع من الهيمنة والتدخل في شؤون الدول .فإذا  كانت أمريكا عازمة على وضع العالم أمام خيار العولمة والأمركة،أو الحرب،فهي أيضًا تجعل نفسها أمام خيارات وجودية،بين أن تكون أمريكا العظمى كقطب متفرد في حكم العالم،أو الحرب النووية،وهذا ما تنذر به أحداث العالم وصراعاته،أن أمريكا ليست بصدد قبول أي وضع جديد ينزل بها من مصاف الدولة العظمى،لتكون دولةً كبرى،كما ترى ذلك لغيرها من الدول،وقد علمتنا التجارب أن نزعة الطاغوتية لا تقبل إلا الموت في خضم صراعات الوجود،وأمريكا ليست بدعًا من الطاغوتية،ولا بد من خضوعها لسنن التاريخ، بحيث يكون لها ما كان لكل حضارة طغت وتجبّرت في التاريخ الإنساني.”والسلام.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى