إقتصاد

زدواجية المعايير في الإدارة العامة: موظفو الدولة يئنّون..  وامتيازات خيالية للبعض (دانييلا سعد )

 

دانييلا سعد – الحوارنيوز

 

في الوقت الذي يكافح فيه موظفو القطاع العام في لبنان لتأمين الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم، فوجئ العاملون في وزارة المالية بمذكرة إدارية صادرة عن الوزير ياسين جابر، تلزم الموظفين بالحضور اليومي حتى الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، موزعة على خمسة أيام عمل أسبوعية. هذا القرار يأتي ليعيد التذكير بواقع مرير يعيشه موظفو الدولة، حيث أن الرواتب لا تزال منهارة، وقد وصلت فعليا، بعد انهيار الليرة اللبنانية، إلى ما يعادل 70 دولارا أميركيا في الشهر، قبل أن تمنح زيادات مالية خارج صلب الراتب الأساسي، ما أبقاها رهينة القرارات الظرفية وغير المستدامة. مع العلم بأن هذه الزيادات لا تزال هزيلة مقارنة بغلاء المعيشة وارتفاع قيمة الأسعار للسلع الاستهلاكية، فضلًا عن الغلاء الذي طال أقساط المدارس.

 

ولا يقتصر الاعتراض على الجانب المالي فقط، بل يتعداه ليشمل البعد الاجتماعي والعائلي. فالتوقيت المفروض للدوام الرسمي لا يراعي واقع الأسرة اللبنانية، حيث يضطر معظم الموظفين إلى ترك عملهم باكرا نسبيا للذهاب واستلام أولادهم من المدارس. ومع هذا التعديل، يجبر الموظفون على تسجيل أبنائهم في باصات مدرسية خاصة، ما يحمّلهم أعباء إضافية وتكاليف قد لا يقدرون على تحملها، ناهيك عن التخبط الذي قد يسببه ذلك في نمط الحياة اليومي، وتهديد التوازن بين العمل والحياة العائلية خاصة بالنسبة للمرأة والتي تشكل نسبة لا يستهان بها في ادارات الدولة.

 

وما يزيد من غرابة القرار، هو أنه يأتي في وقت تحسنت فيه بشكل ملحوظ واردات الدولة نتيجة رفع الرسوم والضرائب والجمارك على معظم المعاملات والسلع. فقد سجلت إيرادات الخزينة زيادة واضحة خلال الأشهر الماضية، ما يطرح تساؤلات جدية حول كيفية استخدام هذه الأموال، ولماذا لا تترجم هذه العائدات بتحسين واقع الموظف العام. والسؤال الذي يطرح بإلحاح: هل الوزير جابر وغيره من الوزراء على علم فعلي بحجم المعاناة التي يعيشها الموظف في ظل هذه القرارات؟ وهل يعقل أن تكون الإصلاحات الإدارية على حساب الفئة الأكثر تهميشا في القطاع العام؟

 

المفارقة الكبرى أن هذه المذكرة تأتي بالتزامن مع صدور مرسوم رقم 275، الذي حدد تعويضا شهريا مقطوعا لرئيس الهيئة المنظمة للاتصالات يبلغ 762 مليون ليرة لبنانية، أي ما يعادل أكثر من 8,000 دولار أميركي حسب سعر الصرف الرسمي في السوق. أما الأعضاء، فقد خصّهم المرسوم بتعويض شهري مقداره 626.5 مليون ليرة، أي ما يعادل نحو 6,500 دولار أميركي شهريًا.

 

هذا التفاوت الصارخ في الرواتب والتعويضات يفتح الباب واسعا أمام تساؤلات مشروعة عن معايير العدالة في الوظيفة العامة. كيف يمكن لموظف في وزارة المالية أن يطلب منه الالتزام بدوام طويل ومجهد، مقابل راتب بالكاد يغطي تكلفة النقل اليومي، بينما تصرف مبالغ ضخمة على هيئة مستقلة، تحت عنوان “تنظيم الاتصالات”، من دون أي توضيح لآلية تقييم الأداء أو الإنتاجية أو حتى حجم العمل الفعلي المنوط بها؟

 

تعليقات الموظفين لم تتأخر، فقد رأى العديد منهم في قرار وزير المالية محاولة لإظهار “الانضباط” الإداري على حساب كرامة الموظف وحقوقه، في حين يتم التغاضي عن الهدر المالي الفادح في مواقع أخرى من الدولة. وأضافوا أن التلويح بالقوانين لا يبرر تحميل الموظف أعباء إضافية من دون أي معالجة حقيقية لأزمة الرواتب، أو حتى توفير حد أدنى من العدالة الوظيفية.

 

إن ما تحتاجه الإدارة اللبنانية اليوم ليس تشديد الرقابة على الحضور والانصراف بقدر ما تحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لنظام الرواتب والتعويضات، مبنية على الكفاءة والعدالة والشفافية. فالمساواة لا تعني فقط الالتزام بالدوام، بل تعني أيضا أن تكافأ الجهود بشكل عادل، وأن يحاسب  أصحاب الامتيازات غير المبررة.

 

في ظل هذه المفارقات المؤلمة، يبدو أن مقولة “كلنا تحت سقف القانون” ما زالت بعيدة عن التطبيق الفعلي، ويخشى اللبنانيون أن يكون سقف هذا القانون منخفضا على البعض، ومرتفعا جدا على البعض الآخر.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى