خطاب عاشوراء:الفساد الذي قتل الحسين..ويقتل لبنان!
كتب واصف عواضة:
تمر اليوم ذكرى عاشوراء،ذكرى ثورة الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء إبنة رسول الله محمد بن عبد الله.هي ذكرى راسخة في التاريخ الإسلامي يحتفل بها المسلمون سنويا منذ نحو أربعة عشر قرنا من الزمان.
وعندما نتحدث عن ثورة الحسين وعاشوراء تحضرنا الشهادة بكل معانيها العظيمة،وهو الذي عاش أجواء الشهادة وقضى فيها ،وعلّمنا بشهادته درسا نحفظه حتى اليوم ،يحفظ لنا كرامتنا وعزتنا،حتى باتت صرخة يا أبا عبد الله شعارا للمجاهدين عند كل صولة وجولة في وجه الطواغيت.
لقد عاش الحسين أجواء الشهادة وهو طفل صغير حيث كان المسلمون الأوائل يتساقطون في سبيل الدعوة المحمدية ،دعوة جده رسول الله .
وكُتبت الشهادة لوالده الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بضربة غادرة في مسجد الكوفة عند صلاة الفجر.
واستشهد عمه جعفر بن أبي طالب، المعروف بـ(جعفر الطيار) في معركة مؤتة، أولى معارك الفتح الإسلامي خارج الجزيرة العربية على عهد النبي .
واستشهد أخوه الحسن بدس السم له بعد تبديد جيشه المقاوم للسلطة الأموية، بالمناورات والمساومات.
واستشهد أخوه العباس وولداه علي الأكبر وعبد الله الرضيع بين يديه في كربلاء، واستشهد معه من بني عمومته وأهله وجميع أصحابه الذين زاد عددهم على السبعين في معركة واحدة وأمام أنظاره في واقعة غير متكافئة.
ومع ذلك لم تكن ثورة الحسين طلبا للثأر والانتقام،وهو الذي تعلم التسامح من جده رسول الله يوم دخل مكة ،ومن أبيه علي بن أبي طالب وهو يصارع سكرات الموت.
كان الحسين شابا ممتلئأ بالحماسة والعنفوان في الخامسة والثلاثين من العمر ،عندما وقف وأخوه الحسن فوق جسد والده وهو طريح الفراش جراء ضربة عبد الرحمن بن ملجم ،وسمع الحديث الذي دار بين أمير المؤمنين وخليفة المسلمين،حيث جيء بالقاتل مكتوفا وقد أقبل به الإمام الحسن قائلا: "هذا هو عدو الله وعدوك ابن ملجم، قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك". فتح الإمام علي عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة:
"يا هذا لقد جئت عظيماً، وخطباً جسيماً. أبئسَ الإمام كنتُ لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا ،فخليت لك السبيل ومنحتك من عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محال، ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع ،فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء".
دمعت عينا ابن ملجم وقال: "يا أمير المؤمنين، "أفأنت تنقذ من في النار"؟
قال له: صدقت. ثم التفت الامام الى ولده الحسن وقال له: "أرفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟
فقال له الحسن: "يا أباه قد قتلك هذا اللعين.. وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟
فقال: "نعم يا بني، نحن أهل البيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرما وعفواً. بحقي عليك، فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فإنْ أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تحرقه بالنار ،ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إياكم والمثلة ،ولو بالكلب العقور"، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو، وأنا أعلم بما أفعل به".
هذه هي الأخلاق التي تخلّق بها الامام الحسين ،وهو بلا شك قرأ رسالة أبيه الى واليه على مصر مالك الاشتر التي يوصيه فيها بالناس فيقول للوالي:
"أشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سُبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من ولاك ! فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك.
بهذه الأخلاق العالية ،لم يخرج الحسين من المدينة معلنا الثورة ،بل خرج لحماية الثورة المحمدية من الضياع والاندثار على يد حاكم جائر فاسد مثل يزيد بن معاوية .هذه الثورة المحمدية التي يجتمع الكثير من المفكرين والمستشرقين على أنها كانت أهم ثورات التاريخ ،بل يقول بعضهم إنها الثورة الأولى في التاريخ ،لأنها غيرت المفاهيم والنظم والقيم السائدة ،وبنت أمة أغنت التاريخ بحضارتها ومبادئها وقيمها،وهذه هي الوظيفة الحقيقية لأي ثورة .وقد خرج الحسين لحماية وصيانة هذه الثورة ،وهو القائل:لم أخرج أشرا ولا بطرا ،بل خرجت للاصلاح في أمة جدي رسول الله.
وهنا كانت مهمة الحسين ربما أصعب من مهمة جده .ونحن هنا لا نفاضل بين الحسين وجده ،فالرسول هو الأصل والحسين هو الفرع،وإنما نقصد أن إصلاح الثورات عادة يكون أكثر صعوبة من القيام بالثورة،وقد واجه أبوه علي بن أبي طالب هذه الحالة وقتل،وواجه أخوه الحسن هذه الحالة وقتل ،وهو أيضا واجه نفس الحالة وقتل.
ومحاولة الإصلاح لم يتصد لها الامام الحسين لأول مرة في تاريخ الاسلام.فقبله تصدى والده الامام علي لهذه المسألة عندما تولى الخلافة ،وكان الفساد قد راح ينخر في جسم الدولة الاسلامية الفتية ،بسبب التوسع والغنى والعائدات الكبيرة التي بدأت الأمصار الاسلامية تدرها على خزائن الدولة .وثمة قاعدة تقول بإنه حيث يكثر المال وتغيب الادارة السليمة ،يعم الفساد.وفي رسائل الامام علي الى الولاة ما ينم عن المفسدة الكبرى التي بلغتها الدولة .ويروي المؤرخون فصولا كثيرة من هذا الفساد،لا مجال لذكرها اليوم.
حاول الإمام علي إصلاح ذات البين ،فقامت القيامة في وجهه،لأنه ليس سهلا على أصحاب الامتيازات أن يتخلوا بسهولة عن مكاسبهم،واضطر الامام أن يخوض حربين ضروسين لكي يصلح الحال ،لكنه لم ينجح في ذلك ،وانتهى الأمر بقتله غيلة في مسجد الكوفة.صحيح أن الإمام علي لم ينجح في الإصلاح ،لكنه رسم للاجيال خريطة طريق في صفات الحاكم العادل .هذه الخريطة صارت نبراسا لكل ثائر،حتى أن الأمم المتحدة اختارت علي بن ابي طالب عام 2002 رجل العام في حقوق الانسان،فأصدرت تقريرا تم فيه اتخاذ الإمام عليّ من قِبَل المجتمع الدولي شخصيةً متميزة، ومثلاً أعلى في:
1.إشاعة العدالة،
2. الرأي الآخر،
3. احترام حقوق الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين،
4. تطوير المعرفة والعلوم،
5. تأسيس الدولة على أسس التسامح والخير والتعددية،
6. عدم خنق الحريات العامة.
ومن كان والده علي بن ابي طالب ،وهذه خصاله وصفاته،كيف يسكت على نظام فاسد وحاكم جائر ودولة يرى انهيارها متدرجا نحو الهاوية؟ وكيف يبايع رجل مثل الحسين ،والده علي وجده رسول الله،نظاما مثل نظام يزيد ؟
لذلك عندما جاءه والي المدينة الوليد بن عقبة طالبا البيعة ليزيد ،قال له جازما حازما : إنّا اهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ،ومختلف الملائكة ،ومحل الرحمة. بنا فتح الله، وبنا يختم ..ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل للنفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله" … ونقطة على السطر.
الفساد قتل الحسين مثلما قتل أباه من قبله.والفساد يقتل لبنان كل يوم،ومن البديهي القول إن اكتشاف الداء هو المقدمة لوصف الدواء.
في لبنان، داؤنا معروف ،ودواؤنا معروف أيضا ،وسنبقى نغالب أنفسنا في العلاج ،ليس لأن طبيبنا جاهل وقاصر،بل الأصح لأنه إما عاجز أو متآمر.
باختصار :نظامنا السياسي هو الداء،وإصلاح هذا النظام هو الدواء ،وما عدا ذلك تفاصيل مملة.لقد مللنا من تكرار القول إن نظاما طائفيا لا يبني دولة ولا وطنا ،بل مجرد مزرعة تافهة تسودها الفوضى.
فلنتصور وضعنا الحكومي أمس واليوم وغدا.دستور بلا مهل يفسح في المجال في كل هذا الدلع والترف السياسي الذي تمارسه الأحزاب والقوى السياسية.كيف يمكن أن تستقيم أمور الحكم وتنتظم السلطات بدستور بلا مهل؟..لا مهلة لانتخاب رئيس الجمهورية ..لا مهلة لتشكيل الحكومة..لا مهل لتوقيع الوزراء على المراسيم.الى آخر المنظومة.
لقد قلت سابقا وأكرر القول على مسؤوليتي الشخصية:إن نظام الطائف هو أسوأ الأنظمة في العالم من حيث توقف ،وقد يكون الأفضل من حيث استكماله ،بهدف الوصول الى نظام وطني لا طائفي يقوم على تكافؤ الفرص بين الناس .
التكافؤ بين الناس هو ما يدعونا اليه اسلام محمد ونهج علي ،ومن أجل ذلك استشهد الحسين.
اليوم يلتقي العاشر من المحرم مع ذكرى تغييب الامام السيد موسى الصدر ورفيقيه. وقد حذرنا الإمام يوما من التفتيش عن وطننا في مزابل التاريخ.
أخشى أن نكون قد بلغنا هذه المرحلة..