خطاب “القوات اللبنانية” توظيف للكراهية بأي ثمن !(أكرم بزي)

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز
على وقع التصعيد الاسرائيلي اليومي، تظهر بوضوح أنّ بعض القوى تحاول الاستثمار في التوتر الداخلي لتحقيق مكاسب سياسية. وفي هذا السياق، جاء الموقف الذي صدر عن وزير الخارجية يوسف رجي داخل مجلس الوزراء، والذي تضمّن كلامًا مستفزًا بحق الرئيس نبيه بري، ليُظهر حجم الانفلات السياسي داخل الحكومة نفسها. فالوزير لم يتحدث بصفته ممثلًا للدبلوماسية اللبنانية في الخارج، بل بصفته طرفًا داخل معادلة تصعيدية تتجاهل طبيعة موقعه ودوره، ما يجعل كلامه أشبه بمحاولة مقصودة لتوتير العلاقة بين المكوّنات الدستورية الأساسية.
إن ما قاله وزير القوات اللبنانية في مجلس الوزراء يعكس ذهنية تتعامل مع المسألة الوطنية بمنطق تسجيل النقاط، لا بمنطق الدولة. فالتصويب على موقع رئاسة المجلس في لحظة تهديدات إسرائيلية مفتوحة على الجنوب، لا يبدو بريئًا، بل يعزز الانطباع بأنّ هناك من يسعى داخل الحكومة إلى فتح جبهات سياسية تُضعف الموقف الرسمي بدل أن توحّده.
في موازاة ذلك، جاء خطاب قائد القوات اللبنانية سمير جعجع اليوم ليضيف طبقة جديدة من التصعيد الخطير. فجعجع قدّم نفسه في خطاب متوتر بوصفه الطرف الوحيد القادر على “إنقاذ” الدولة من الداخل، مستعيدًا المفردات التي يكرّرها منذ أشهر حول “هيمنة” الثنائي الوطني، لكن بنبرة أشدّ حدّة، حملت رسائل واضحة إلى الداخل والخارج معًا. وهذا الخطاب لا يمكن قراءته بمعزل عن محاولات القوات تثبيت صورة أن البلاد تقع تحت “احتلال داخلي”، وهي سردية مشغولة لتهيئة ميدان سياسي يسمح للقوات بإعادة فرض نفسها كقوة مقرِّرة في أي إعادة تشكيل مقبلة للنظام السياسي.
الأخطر في خطاب جعجع أنه حاول استثمار التهديدات الإسرائيلية لإعادة إنتاج معادلة داخلية جديدة، عبر تصوير المقاومة بوصفها مصدر التهديد الرئيسي، متجاهلًا أن الجنوب يعيش منذ سنة كاملة تحت القصف والاعتداءات. وهذا الخطاب، في لحظة وطنية حساسة، لا يمكن فهمه إلا كجزء من استراتيجية تقوم على نزع الشرعية عن مكوّن لبناني أساسي، وإعادة ترتيب الاصطفافات بما يخدم طموحات سياسية مكشوفة.
وعلى خط موازٍ، ظهر خطاب مسؤول الإعلام في القوات شارل جبور في الأيام الماضية ليكشف المستوى الأخطر من التحريض الذي تتبناه بعض أوساط القوات اللبنانية. فتلويحه بما يشبه “إبادة مليون ونصف المليون شيعي” ليس زلة لسان ولا رأيًا إعلاميًا عابرًا، بل امتداد لنزعة إلغائية عميقة داخل جزء من ماكينة القوات السياسية والإعلامية. هذا النوع من الخطاب يستدعي ذاكرة الحرب الأهلية بكل تبعاتها، ويعيد إنتاج منطق الإقصاء الذي كان سببًا أساسيًا في انهيار الدولة يومًا ما.
والمفارقة الصارخة أنّ القوات اللبنانية، التي ترفع شعار “الدولة أولًا”، تقدّم اليوم خطابًا يناقض جوهر فكرة الدولة. فالحزب الذي يخاطب اللبنانيين بلغة الدستور والمؤسسات، كان في محطات عديدة من تاريخه أول من اصطدم مع الجيش اللبناني نفسه، وأول من فتح مواجهات داخلية مع مسيحيين من أبناء بيئته كما في حرب الإلغاء. واليوم تستعاد تلك اللغة من جديد، لكن بلبوس سياسي وإعلامي معاصر.
إنّ الخط البياني المتصاعد بين كلام الوزير رجي داخل مجلس الوزراء، وخطاب جعجع الأخير، وتحريض جبور، يرسم مشهدًا متكاملًا لا يمكن تجاهله. فهذه ليست مواقف متفرّقة، بل حلقات ضمن مسار واحد يحاول إعادة صياغة الصراع الداخلي على أساس مذهبي وسياسي، بما يفتح الباب أمام تدخلات خارجية أو توترات داخلية قد تعصف بما تبقّى من بنية الدولة.
من هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى مواجهة هذا الخطاب ليس بخطاب غرائزي مضاد، بل بمشروع وطني واضح يفضح أهدافه السياسية، ويعيد التأكيد أن الشراكة الوطنية هي الركن الأساس في حماية لبنان، وأن الاستقواء بالخارج أو الاستثمار في الخوف الداخلي ليس مشروع دولة، بل مشروع انهيار شامل.
فالاستقرار الوطني لا يُبنى على التهديد ولا على التصعيد، بل على احترام التوازنات، وعلى الاعتراف بأنّ لبنان لا يُحكم بمزاج طرف واحد ولا بإلغاء مكوّن آخر، وأن الزمن الذي كان فيه التحريض وسيلة لبناء نفوذ سياسي قد ولى، وأن مستقبل البلد لا يمكن أن يقوم إلا على خطاب مسؤول يعالج جذور الأزمة بدل دفعها إلى انفجار جديد.

