رأي

حين يغيب الإنسان ويُبث المشهد: ازدواجية شاشاتنا(سعيد عيسى)

 

د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

 

في أقصى بقاع الأرض، حيث يلهو الموت بطفولة لم تُزهِر بعد، وتُسحَق كرامة الكبار تحت ركام الصراعات، توثق عدسات الكاميرا فصولًا من الجحيم. جسدٌ غضٌّ يتلوى في لهيب، روحٌ تُسحَب من تراب الحرب، أو حتى صرخة حيوان أعزل تُبتلَع في صمت مروع. تُختطَف هذه اللحظات من قسوة الواقع المطلقة، وتُلقى إلى فضاءٍ آخر: شاشاتنا المتلألئة. هنا، تتحول الفاجعة إلى صورة معروضة، تتحوّل الحقيقة الخام إلى مادة بصرية.

ليست هذه مجرّد بكسلات تتجمّع؛ إنها حياة تنتهي، صوت يُخنَق، أملٌ يتبدّد. لكننا، نحن المتلقّين، نحدّق في هذا العرض ببرودٍ يبعث على الارتياب. فالمأساة التي تقتحم أعيننا تتحول إلى مجرّد حَدَثٍ عابر، وكأنها لقطة من حكاية خيالية، نُعلّق عليها بكلماتٍ باهتةٍ ثم نُقلّب الصفحة. هكذا، يصبح الألم الإنساني العظيم، في عالَمنا الرقمي، مُستساغا، جزءًا من روتيننا اليومي.

هناك متعة خفية، مظلمة في جوهرها، تستوطن أعماق وعينا الجمعي حين نرى معاناة الآخر. هي تلك اللحظة التي نُذيب فيها الفاجعة في مساحة المشاهدة، فنمرّرها، وربما نشاركها، وكأننا نسهم في نشر الفعل المُدَمِّر. يطرح هذا السلوك سؤالاً مقلقا: هل بات التحديق في وجع البشر مجرد تسلية؟

إن من يطلق هذه المشاهد إلى الفضاء العام يساهم، بوعي أو بغير وعي، في صياغة الفظاعة كـعرضٍ مسرحيّ. يُجرّدها من ثِقلها الأصيل، يُلبسها رداءً دراميا، ثم يدعونا إلى التصفيق أو التعبير. عند هذا المنعطف، يغدو الفعل المُشين شيئًا مغايرا؛ لا يعود مجرّد عدوان، بل يتحول إلى سلعة بصرية.

الجلاد، في مفارقةٍ قاسية، يربح مرتين: مرةً حين يُشعِل فتيل الشرّ، ومرةً أخرى حين تضغط أنت على مفتاح “المشاركة”. في اللحظة التي تقرّر فيها أن هذه الفاجعة ينبغي لها أن “تُرى” لا أن “تُفهم”، تتحوّل الجريمة إلى إعلانٍ مجانيّ، ويصبح نزفُ الأبرياء مادةً يُراد منها الانتشار. وما الذي يمكن أن يفوق بشاعة الفعل نفسه؟ أن يصبح وسيلةً للترويج.

لكل روحٍ أُزهقت قسرا، لكل دمعةٍ انهمرت على وجنةٍ شاحبة، لكل صرخة ألمٍ لم يصل صداها، هناك قصّة أعمق تستحق أن تُدرك بتأمل، لا أن تُشاهَد كمجرّد لحظة عابرة. العدوان ليس ترفيها، والموت ليس حبكة درامية نستهلكها ثم نُكمل مسيرتنا. إنها دعوة صادقة لنا جميعًا لنفيق من غفلتنا الرقمية، ولنتوقف عن جعل مرارة الواقع جزءًا من تفاعلاتنا اليومية الخالية من العمق.

دعونا نُعيد للإنسانية هيبتها الضائعة، ونرفض أن تتحوّل المآسي إلى مجرد لقطاتٍ يطويها النسيان بمجرّد التمرير على شاشاتنا. لنتعامل مع هذه المشاهد بوعيٍ متقد وإدراكٍ عميق، ولنجعل من إنسانيتنا البوصلة التي ترشدنا. فالمأساة ينبغي أن تُدرَك، لا أن تُشاهد. والدماء يجب أن يُبكى عليها، لا أن تُسوَّق. لنتوقف عن تحويل الألم إلى مادةٍ للعرض، ولنكن الصوت الذي يصدح برفض هذا الاستهلاك البارد لمعاناة البشر.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى