باسم باجوق – الحوار نيوز
صغيرةٌ تسعى حائرةً ما بين الشجيرات العطشى
في المكان النائي
عند سفح الجليل
تجمع ما تيسر في خاطرها من أمنياتٍ
تخفقها مع عصارة الصبار المشاكس وسط جفاف الأمكنةِ
بيدين عاريتينِ
وسلاسل حجريةٍ شادها الماضون نحو البعيد…
ثم تسكب ما صنعت عساه يستحيل شراباً ترياقاً لعطش الشجيراتِ
والفصول
يافعةٌ تناغي يُتمها
فيغفو
ثم تغدو مع الرفيقات نحو شظف العيش بابتساماتٍ خجولةٍ وهمسٍ من زغاريد…
الصبايا الحسناواتُ
بعضٌ من أساطير الأقدمين
فتلك صب الندى
وتلك انسدال الجوى
وتلك أبجدية الفراشاتِ
وتلك نور الصباحِ
وتلك انبعاث الدفء في الكائنات ذات ربيعٍ
من جديد…
شابةٌ تحمل شهادة تخرجها
من أكاديمية الفجر المقيم في يومياتها البسيطةِ
ما بين أحلامها الصغيرة كصغر أزقة الحي القديمِ
ما بين صوامع القمحِ
خوابي الزيتِ
وجع التبغِ
سلال العنب في الكرومِ
وقداسة الزيتون والتين
الغلال في سلتها
للطيبين سلامٌ
وعلى الذئب المتربص في الغابة المجاورةِ خلف الحدود
سهامٌ من نارٍ أمدها الله بها
وألانَ لها الحديد…
إلى رفيق العمر تمضي
يداً بيد يشيدان عش الحياةِ
على حوافي الموتِ
بين فكي التنين
بصمتٍ وصبرٍ عفوييَنِ
كعفوية النسيم في صيفنا العنيد…
سيدةٌ عذبةٌ طاهرةٌ
تطلق لبارئها مع الأنفاس تسابيح صلاة
ولكل الآتينَ ابتسامة حبٍ
وابتهالات
تبكي مع مريم شباباً غضاً أردتهم تيجانٌ من أشواك غرسها الجلادون فوق رؤوسهم، على امتداد قرى الشريط الأقدس
تفرش معها دمعاً على طريق جلجلة الناصري، وتمد يداها المتعبتان لترفع عن كاهله ثِقل الصليب
ومع فاطمة تندب المرمل فوق الرمضاءِ بشيبه الخضيب
لها كربلاء ثانيةٌ خاصةٌ بها
تحييها بالتهاب الجمر في الأحشاءِ
لأربعةٍ من فلذات الكبدِ
تنوح عليهم بلظىً خافتٍ
و”فراقياتٍ” تُجري محاجر دمع الصخرِ
فتراه في نواحٍ وأنين
لتلك السيدة خبزٌ من ارتحالٍ قسري
يرمينا به الطغاةُ هناكَ
وكل جبارِ عتيد…
المسنة الجليلةُ
زهرة قندولٍ يتحلق حولها الصغارُ
يرجون ترنيمةً من عذب صوتها
لكأن على رؤوسهم الطيرُ
إذ الكل يُنصتون بسكونٍ خاشعين
وفي الأفق جوقةٌ ملائكيةٌ
ما بين عازفٍ على قيثارة السماءِ
وما ببن مرتلين مرددين
في البيت الدافئ جداً
الواسع جداً
الهادئ جداً
للكل حظٌ من الدفء والسعة والإغفاءة
عظيم
وباب البيت مشرَّعٌ دوماً للأحبةِ
ما قبل قصف الرعودِ
خلال قصف الرعودِ
وإلى ما بعد ما بعد اندثار الشيطان المريد…
لأمي
ضحكات الصغار حين يعدون في ملاعبنا الجمةِ
ما بين صفا البيادرِ
ومروى الحقول
لأمي
حبو النحل على شغفٍ
ينثر الورد على الضريح الموغل في وحشة المكان المعذبِ
ونَوْح العصافير المختبئة بين أشجار الروضِ
تنشد الأمان من آلات الموتِ
المكانُ والنحل والعصافير والضريح وأشياء ثانيةٌ هناكَ
ما هم إلا
وحيدٌ يؤنس وحشة وحيد…
لأمي انحناءة العليق على دروب اللوز والرياحين
لأمي تمايل السنابل مرحاً بين مناجل الحصادين
لها ضوع الطيون إذ يلامس أثواب العابرين
ولهفة العائدين إلى حرية دساكرهم
بعد طول أسرٍ مديد…
أمي
يا آخر الأساطير في كتبي
والملاحم
يا ظل الله على معابر الوجعِ
وموانئ الرحيل
يا ضوع الليمون يرافق قوافل العائدين من يافا
سلامٌ عليكِ أماه
سلامٌ عليك آناء الليل وأطراف النهار
ما لاح نجمٌ وزهت أقمار
سلامٌ عليك وأنت تعدين الشمسَ
لتزهو في الصباح
سلامٌ عليك وأنت أميرة المواسمِ
وطلعُ الأقاح
أمي
الطفل أنا
والطفل لا زال في محضرك يرفض الكِبَر
لا زال يتمسك بجلبابك والصِغَر
لا زال يقف على مشارف الدفء في عينيكِ
يرتمي في حجركِ
ليتد في الأرض قدمه
ليرمق اقصى الحياة بنظرهِ
ثم يعيد البصر
فما الحياة عنده إلا أنتِ
وفطيرةٌ تعدينها من كثير تحنانٍ وعطفٍ
وبعضٍ من زيتٍ وسكر
الطفل أنا يا أمي كلما مر الزمانُ
صار يتمسك بجلبابك أكثر فأكثر
يخشى أن تتركيه
الطفل أنا ضعيف بلا حول ولا وسيلةٍ
إذ لا مناص مما قد خُط بالقلم
لا محيص من السفر
إن هي إلا كلمة الله والقدر
نتوسل بحرقةٍ لكنما
يفعل الله ما يشاءُ ويريد…