حين تُحسِن الدولة ملاحقة التجار.. وتُخطئ طريقها إلى الحدود(زينب إسماعيل)

زينب اسماعيل – الحوارنيوز
هناك توقيت في لبنان يشبه توقيت المسلسلات التلفزيونية: فجأة تتكثّف المداهمات الأمنية وتُعلن توقيفات بالجملة ويظهر أن الدولة “قادرة” فجأة على الإمساك بعشرات المطلوبين، وتحديدًا تجار المخدرات الذين لطالما عاشوا بأمانٍ في مناطق يعرف الجميع أنها خاضعة لحماية سياسيّة أو حزبية.
وفي اللحظة التي يكرّر فيها الإسرائيلي شرطه الأساسي: “سحب سلاح المقاومة هو ثمن أي تهدئة”، يبدأ المشهد الداخلي بالتحرّك بطريقة تثير أكثر من علامة استفهام. السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الحدّة؟ ومن رُفع عنه الغطاء فجأة؟
منذ فترة يشهد البقاع وتحديدًا بعض المناطق الحدودية عمليات توقيف نوعية لتجار مخدرات معروفين. وهذه العمليات لم تُنفَّذ بصمت، بل خرجت إلى الإعلام على شكل “إنجازات” متتالية توحي بأن الدولة استعادت فجأة ذراعها الأمنية الكاملة. لكن هذه الذراع نفسها لم تتحرّك حين توغّلت قوات إسرائيلية إلى الداخل، ولم ترتجف حين قصفت الطائرات بيوتًا وأحياءً، ولم تتفاعل حين اغتيل مقاومون في سياراتهم ودراجاتهم في قلب مناطق يعتبرها الناس “محمية”. الصمت لم يكن موقفًا سياسيًا، بل كان برودة كاملة، كأنّ شيئًا لم يحدث، وكأنّ الحدود ليست أولويّة بل هامش يمكن تأجيله.
هنا تصبح السخرية موجعة. الدولة التي تجد كل طاقتها حين يتعلّق الأمر بتاجر مخدرات، تتحوّل إلى جهاز بطيء فاقد الحركة حين يتعلّق الأمر باعتداء مباشر على أراضيها. وفي الوقت الذي كان يفترض فيه أن يسمع المواطن ردًا واضحًا على الاختراقات الجوية والبرية، كان يسمع أخبارًا من قبيل “الجيش يوقف فلانًا” و“الجيش يداهم أوكار عصابة”. هذا ليس سلوك دولة ضعيفة فقط، بل سلوك دولة تختار أولوياتها على أساس ميزان سياسي جديد، وليس على أساس مصلحة الناس.
لكن النقطة الأهم، وربما الأخطر، ليست أداء الجيش نفسه، بل التوقيت السياسي. منذ سنوات يعرف اللبنانيون أن جزءًا من تجارة المخدرات محميّ سياسيًا أو حزبيًا. يعرفون أنّ هناك خطوطًا حُمر تمنع الاقتراب من أسماء معيّنة، وأن ملاحقة بعض التجار قد تعني مواجهة مجموعات مسلّحة أو وجهاء نافذين. اليوم، فجأة، تُكسَر الخطوط الحُمر نفسها، ويُفتح الباب على توقيفات ما كانت ممكنة قبل سنة أو سنتين. هل تغيّرت القوى على الأرض؟ أم أنّ الغطاء الذي كان يحمي هؤلاء رُفع عنهم لسبب ما؟
السؤال الذي يطرح نفسه بلا تجميل لدى المشككين:
هل كان بعض هؤلاء تحت حماية المقاومة نفسها؟
وإذا نعم، لماذا الآن تحديدًا رُفع الغطاء؟
هل هو إعادة ترتيب للبيت الداخلي، أم محاولة لتقديم صورة “منضبطة” إلى الخارج؟
أم هو جزء من سياق أوسع يسعى إلى القول إنّ الدولة تستطيع أن تمسك الأمن في الداخل إذا رُفع السلاح عن خارجها؟
التوقيت ليس بريئًا. حين يتزامن الشرط الإسرائيلي بسحب السلاح، مع تحرّك أمني داخلي يبدو كأنه يعيد صياغة مشهد القوة ومن يملكها، نكون أمام سؤال مشروع: هل نحن أمام هندسة جديدة للواقع اللبناني؟ هل يُعاد رسم شكل السلطة بين الدولة والمقاومة؟ أم أن الضغوط الدولية والإقليمية بدأت تفرض إيقاعها فعليًا، فيتحرك الداخل وفقًا له؟
ما يزيد المفارقة حدّة هو غياب أي موقف عملي من رئاسة الجمهورية التي أعلنت سابقًا أنها طلبت من الجيش الرد على أي توغل. هذا الكلام بدا يومها جملة سياسية لا أكثر. فحين وقعت اعتداءات أكبر وأخطر لم يحدث أي رد. لم نرَ تبدّلًا في الانتشار العسكري، ولا رفعًا لسقف الموقف الرسمي، ولا حتى لغة أكثر حدّة. كأن السلطة تعرف أن القرار ليس عندها، وتعرف أن هامشها محدود، وتعرف قبل الجميع أن ما يُسمّى “استعادة السيادة” هو شعار يُرفع فقط عندما يتعلّق الأمر بقضايا داخلية صغيرة، لا بقضايا وجودية.
في النهاية، قد يكون الجيش يقوم بعمله ضمن ما هو مسموح له سياسيًا وعمليًا، لكن المشكلة ليست الجيش. المشكلة في المشهد الذي يُراد رسمه: دولة قوية على المواطن وضعيفة أمام العدو، سلطة تتشدّد في مكافحة المخدرات وتتراخى أمام الطائرات المعادية، ومؤسسات تعرف أنّ الأولويات ليست وطنية بل تفاهمات بين قوى تملك السلاح والقرار.
والمفارقة الساخرة الأخيرة: يبدو أن الدولة اللبنانية اكتشفت فجأة قدرتها على الإمساك بمَن داخل حدودها، لكنها لم تكتشف بعد كيف تُمسك بمن يدخل هذه الحدود من الخارج. هل هذا صدفة؟ أم هو ترتيب جديد سيحتاج اللبنانيون وقتًا طويلًا لفهمه؟
في كلتا الحالتين، ما يحدث اليوم أكبر من “مداهمات”. إنه إعادة توزيع للأدوار، تُنفّذ بصمت، وتُنشر على شكل “إنجازات أمنية”، بينما الحقيقة أبعد وأعمق وأقسى.



