حين تتحول السلطة إلى أداة اشتعال (أكرم بزّي)

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز
لم يعد ممكنا التعامل مع مواقف رئيس الحكومة على انها زلات لسان او اجتهادات ظرفية. ما يصدر عنه اليوم يعكس مسارا سياسيا واعيا، يتقدم فيه من موقع ادارة الدولة الى موقع توظيفها في بازار الولاءات الخارجية، متجاهلا هشاشة الداخل اللبناني وخطورة اللعب على خطوط الانقسام. فبدل ان يكون رئيس الحكومة عامل تهدئة وضمانة استقرار، يبدو وكأنه يتعمد دفع البلاد نحو حافة صدام، مستسهلا فتح ملفات شديدة الحساسية، في توقيت قاتل، وبخطاب يستبطن استفزازا سياسيا واجتماعيا، وكأن المطلوب تسجيل نقاط خارجية على حساب السلم الداخلي، ولو احترق البلد، وهنا لا يعود السؤال بريئا ولا تقنيا، بل يصبح اتهاما سياسيا مباشرا، بأي منطق يعلن عن بدء مرحلة ثانية فيما اسرائيل تضرب وتخرق وتقتل، ولم تنفذ حرفا واحدا من التزاماتها، ولم تحترم حتى وقف الاعمال الحربية الذي يفترض انه الحد الادنى لأي مسار سياسي او امني.
ما الذي يريده رئيس الحكومة في هذه اللحظة تحديدا؟ هل يسعى الى تثبيت موقعه لدى الاميركيين، ام الى توجيه اشارات طمأنة اضافية للعواصم الخليجية، ام ان الامر يتجاوز الحسابات الخارجية ليعكس خصومة متراكمة مع اللبنانيين انفسهم؟
اسئلة تتقدم الى الواجهة مع اقتراب الاعلان عن انتهاء المرحلة الاولى من خطة الجيش، والانتقال رسميا الى مرحلة جديدة تشمل منطقة شمال نهر الليطاني، ما يمنح قرارات الحكومة طابعا سياسيا يتجاوز البعد الامني المعلن.
في هذا السياق، لا يمكن فصل اي مقاربة سياسية داخلية عن الدور الاميركي، اذ ان اميركا لا أمان لها، بل ان الخداع يشكل جوهر سياستها، وما تحيكه في العمق يقوم على فرض وقائع الشقاق والخلاف داخل المجتمعات، لاستثمارها لاحقا كنقاط نفاذ، تدخل من خلالها لفرض شروطها وتحقيق ما تريد، وهو مسار خبرته المنطقة مرارا في اكثر من ساحة، ولا يزال لبنان احد ميادينه المفتوحة.
في لحظة لبنانية شديدة الحساسية، يبدو المشهد العام معلقا على توازن هش، تتقاطع فيه العوامل الامنية والسياسية والاقتصادية، فيما تتسارع التطورات بوتيرة تفوق قدرة الدولة على مواكبتها او احتوائها، ما يجعل كل موقف رسمي قابلا للتحول الى نقطة اشتباك داخلي، في ظل غياب ادوات التهدئة والوساطة.
ضمن هذا المشهد، جاءت تصريحات رئيس الحكومة حول فتح ملف حصر السلاح شمال الليطاني لتعيد اشعال سجال واسع، نظرا لحدة الموقف ووضوحه وتوقيته، وهي عناصر غير مسبوقة في مقاربة هذا الملف، ما فتح الباب امام احتمالات تصعيد سياسي وشعبي، في وقت تغيب فيه المظلة الدبلوماسية الخارجية، مع تعليق زيارات الموفدين الدوليين الى ما بعد مطلع السنة الجديدة، الامر الذي يترك الساحة الداخلية مكشوفة امام الضغوط والتجاذبات.
على المستوى الامني، تتواصل الاعتداءات الاسرائيلية بوتيرة متصاعدة، سواء من حيث الكثافة او الامتداد الجغرافي، متجاوزة عمليا ما كان يعرف بقواعد الاشتباك، وموسعة دائرة الاستهداف في رسالة ضغط متعددة الاتجاهات، لا تنفصل عن السياق الاقليمي المتفجر، ولا عن محاولة فرض وقائع جديدة على لبنان، ميدانيا وسياسيا.
وتشير المعطيات المتداولة الى غموض يلف مسار الخطة في مرحلتها الثانية، خصوصا ان حز.ب الله كان قد وضع سقفا واضحا لتعاونه مع خطة الجيش، محصورا بجنوب الليطاني، انسجاما مع القرار 1701، ومع اتفاق وقف اطلاق النار المعلن في السابع والعشرين من تشرين الثاني من العام الماضي، كما تفيد هذه المعطيات بان الايام الماضية لم تشهد اي اتصالات سياسية جدية، سواء على مستوى الرؤساء الثلاثة او خارج هذا الاطار، وكأن الملف جرى ترحيله الى ما بعد بداية العام الجديد، او ربطه بما قد ينتج عن اللقاء المرتقب بين ترامب ونتنياهو، الذي ينتظره كثيرون باعتباره محطة مفصلية قد تنعكس تداعياتها مباشرة على لبنان والمنطقة.
ما يجري ليس سوء تقدير ولا اندفاعا غير محسوب، بل مقامرة مكشوفة بمصير بلد منهك، فحين تفتح السلطة اعقد الملفات في ظل اعتداءات اسرائيلية متصاعدة، وغياب اي مظلة سياسية او دبلوماسية، فانها تتحول من سلطة حاكمة الى طرف في النزاع، ومن موقع المسؤولية الى موقع الاشعال، والخطر الاكبر ان هذا المسار لا يخدم لا الامن ولا الدولة، بل يخدم فقط مشاريع الخارج التي لا ترى في لبنان سوى ساحة مفتوحة للفوضى والضغط والابتزاز، وعندها لن يكون السؤال من اشعل النار، بل من سيتحمل كلفة الحريق، ومن سيدفع ثمن سياسة الهروب الى الامام حين يسقط الوهم وتبقى الوقائع.



