الحوار نيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتبت ريما النخل في صحيفة الأخبار:
ودّعت القاهرة وبيروت وفلسطين والعالم العربي كلّه يوم السبت أحد الفنانين الذين يصعب أن يتكرّروا في تاريخنا. ينتمي حلمي التوني إلى جيل من التشكيليين العرب الذين نظروا نظرةً ملتزمة إلى الفنّ، بصفته أداةً للنضال ومقاومة مختلف أشكال الهيمنة، وحاملاً للقيم والمبادئ الإنسانية على رأسها العدالة الاجتماعية والوحدة العربية ومناصرة المرأة. وانطلاقاً من هذه القناعة، جاءت مسيرته الإبداعية لتقترب من الناس وتدخل بيوتهم، جاعلةً الفنّ في متناول الجميع: من تصميم الأغلفة والكتب إلى الملصقات وصولاً إلى اللوحة… كلّها حُمّلت تراثنا وموروثنا الشعبي والفني، فيما ظلّت فلسطين هاجسه حتى… «البوست» الأخير
لبيروت حصة وازنة من إبداعات الفنان المصريّ الراحل حلمي التوني (1934ــ2024) الذي طوى مشواره الإبداعي يوم السبت الماضي وقد أتمّ عامه التسعين، تاركاً إرثاً كبيراً وإنجازات تشكيلية في أكثر من مجال، لوحاتٍ وتصميماً غرافيكياً ورسوماً للأطفال وأعمالاً كاريكاتورية وملصقاتٍ للأفلام. أمّا شهرته الكبيرة، فتعود إلى تصميم أغلفة الكتب، أبرزها لروايات نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ومحمود درويش، وعبد الوهاب البياتي، وأنيس منصور، ورضوى عاشور وجمال الغيطاني ونوال السعداوي وآخرين كثر. تصميم أغلفة الكتب بشكل خاص اندرج ضمن «مهمّتنا بإيصال الفنّ إلى الناس، وهذا من أهمّ دوافع اهتمامي بتطوير أغلفة الكتب التي تدخل بيوتهم» وفقاً لما قال لنا في آخر لقاء جمعنا به على هامش «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الذي وجّه له تحيّة عبر تنظيم معرض غطّى نصف قرن من مسيرته الإبداعية (الأخبار 29/11/2023). ينتمي حلمي التوني إلى جيل من التشكيليين المصريين ممّن تشكّل وعيهم في ظلّ ثورة 1952 ومبادئها وقيمها على رأسها العدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، ومناصرة المرأة ومقاومة الهيمنة بمختلف أشكالها، فيما كانت فلسطين بوصلة كل القضايا. لذا، يوم كان مشرفاً فنياً لإصدارات «دار الهلال» في القاهرة، أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قراراً (في عام 1973) يقضي بطرد أكثر من مئة صحافي لمطالبتهم بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل. طبعاً، ضمّت تلك القائمة التوني إلى جانب أسماء أدباء وكتّاب أمثال نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، وألفريد فرج، وجمال الغيطاني الذين نُقلوا للعمل في هيئة الاستعلامات.
وكان التوني من المطرودين بـ «تهمة» أنّه شيوعيّ، ولم يكن كذلك، فقرّر مغادرة بلده إلى بيروت حيث أقام لأكثر من عقد في المدينة التي كانت ملجأً للمناضلين والمفكّرين العرب المطرودين من أوطانهم، تغلي بأفكار التحرّر والحداثة والتيارات الفنية والثقافية والقضايا العربية على رأسها فلسطين. التحق التوني أولاً بـ«المؤسسة العربية للنشر» بسبب علاقته بالناشر عبد الوهاب الكيالي، وبالمقاومة الفلسطينية التي كانت انتقلت إلى بيروت (الأخبار 4/5/2009). وبعد أيلول الأسود، راح يصمّم ملصقات المقاومة وبوستراتها. كذلك، صمّم لوغو جريدة «السفير» التي أسهم في إنشائها وأضفى لمساته الفنية الخلّاقة على صفحات الجريدة وملاحقها، وهو مصمّم شعارها الذي حملته حتى يوم توقّفها عن الصدور. تولّى أيضاً تصميم شعار «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» المعتمد حتى اليوم. آنذاك، عبّر عن إعجابه ببيروت كمدينة منفتحة على الغرب حيث الطباعة المتطورة والإمكانات المتوافرة، فضلاً عن كونها عاصمةً نضالية للمقاومة الفلسطينية.
بألوانه الزاهية جمع هذا الفنان بين الأسطوريّ والشعبيّ، رموزاً وطقوساً، متخذاً من المرأة المصرية تيمةً لمعظم لوحاته، مقترباً بتأنٍّ وحذر من أسلوب بيكاسو الذي كان التوني معجباً به من دون تقليده. ولم يخف أيضاً تأثره بروّاد الفن الشعبي المصري أمثال محمود مختار، ومحمود سعيد وعبد الهادي الجزار. منذ بداياته، ظهرت المرأة «بطلةً» في لوحاته بل أيقونةً. رسم النساء بأجسادهن الريّانة وعيونهن الواسعة، وبينهن شخصيات نجيب محفوظ الروائية، بين سفور وحجاب، براءة و«رذيلة»، خاطفاً الأنظار بألوانه الصاخبة التي تمزج الأحمر القاني بالأصفر الذهبي، فتدخلنا اللوحة إلى عالم الليل السري المليء بالغواية، والجسد المشتهى الذي برع محفوظ في رسمه بالكلمات، فلاقاه حلمي التوني ليرسمه بالخطوط والإيحاءات.
اقترب بتأنٍّ وحذر من أسلوب بيكاسو الذي كان معجباً به من دون تقليده
وضمن هذه التجربة الكبيرة الفائقة الثراء عطاءً وإبداعاً، لم يغفل التوني عن القضية العربية الأم، فلسطين، فخصّها بلوحات بديعة، بينها لوحة تعود إلى عام 2010 لامرأة فلسطينية تعقد على حجاب رأسها «مفتاح العودة» ونبتة صبّار، رمزَي العودة والصمود. منذ السبعينيات من القرن الماضي (لا ننسى أنّه عاش أجواء القضية والمقاومة الفلسطينية في بيروت)، راح يكمل مدونته التشكيلية الخاصة بفلسطين، فرسم مثلاً امرأة تختزل مصر (بنظرته هو لا نظرة السادات الخائنة) التي يعرفها، وهي تحتضن طفلاً فلسطينياً… أي مصر الحاضنة للقضية لا المتخلّية عنها. النساء الفلسطينيات يحافظن في لوحاته على صلابتهن وقوتهن، أيقونات صمود وإرادة ذات طابع شعبي، مثل لوحة «فلسطين في القلب» (1977) التي تصوّر حسناء فلسطينية واسعة العينين تحتضن قبّة الصخرة في القدس… أو تلك اللوحة لامرأة فلسطينية باكية ترفع إصبعيها المجروحين كعلامة نصر، وهي من أعمال عدة أنجزها الفنان الراحل عن مأساة غزة الراهنة ونشرها على فايسبوك، وبينها رسوم بالأبيض والأسود تعكس قتامة الوضع وفظاعته.
النساء الفلسطينيات يحافظن في لوحاته على صلابتهن وقوّتهن، كأنّنا بهنّ أيقونات صمود وإرادة مع طابع شعبي
كذلك، صمّم التوني عشرات الملصقات التي تمجّد المقاومة أثناء تعاونه في بيروت مع الإعلام الموحّد لـ «منظمة التحرير الفلسطينية»، ووثّق برسومه حصار بيروت الذي عاشه مع المحاصرين في عام 1982 ودُمِّر يومها منزله في الروشة، مقارباً الكفاح والمقاومة بصورتين غالبتين في أعماله، هما المرأة الصامدة والطفل الذي يرمز إلى المستقبل والحياة. علماً أنّ الناشر اللبناني عبودي أبو جودة يمتلك مجموعة واسعة من ملصقات وتصاميم الفنان الراحل.
ومع بدء الإبادة الاسرائيلية بحق غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، استعاد حلمي التوني إحدى أشهر لوحاته على صفحته الفايسبوكية بعنوان «فلسطين الأم» ودوّن إلى جانب اللوحة، حكايتها: «هذه اللوحة عن سيدة فلسطينية تنتظر… رسمتها في بيروت صيف 1982. وبعد أيام من رسمها، اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت بيروت لتكون أول عاصمة عربية في العصر الحديث تسقط تحت الاحتلال… وتضيع اللوحة! ومن يومها والسيدة الفلسطينية تنتظر حتى يأتي أولادها وأحفادها، بعد إحدى وأربعين سنة، ليردّوا لها شرفها وكرامتها».
سيرة في سطور
وُلد حلمي التوني في بني سويف(30 نيسان 1934) ونال بكالوريوس الفنون الجميلة (اختصاص ديكور مسرحي) في عام 1958، كما درس فنون الزخرفة. عمل في بداياته في مجلة «الكواكب» قبل انتقاله إلى «دار الهلال». استقرّ في بيروت منذ أوائل السبعينيات حتى أواخر عام 1985 قبل عودته إلى القاهرة حيث أقام عدداً من المعارض المنفردة. وشارك في معارض دولية بين ألمانيا والبرتغال واليابان والهند والعراق وسوريا والسعودية. صمّم شخصية «صحيح لما ينجح» لمسرح الدمى من تأليف الراحل صلاح جاهين، والكثير من ملصقات الأعمال المسرحية والسينمائية، وملصقات للأطفال التي نشرتها منظمات تابعة للأمم المتحدة بلغات متعددة. أما غلافات الكتب التي صمّمها، فعددها هائل يقرب من الأربعة آلاف غلاف. ونال عدداً من الجوائز المحلية والعالمية، فيما وجدت أعماله الفنية طريقها إلى «متحف الفن الحديث» في القاهرة، وإلى مجموعات شخصية في العالم العربي وأوروبا وأميركا.