محّمد قجّة* – الحوارنيوز
لعل العلاقة بين مدينتي حلب الشهباء والموصل الحدباء أعمق من التوأمة والجوار . إنها علاقة مثلى ورائدة :
1 – في التسمية : ورد اسم حلب منذ اﻷلف الثالث ق . م ويعني “مركز التجمع”. بينما تعني كلمة الموصل ( بفتح الميم )مكان الوصول .. ومن هنا التشابه في دﻻلة الكلمتين .
حلب الشهباء بسبب لون حجارتها اﻷبيض الضارب للشقرة . والموصل الحدباء بسبب المئذنة الحدباء في جامعها الكبير . وهي أيضا أم الربيعين .
2 – في التاريخ : يشير علم اﻵثار إلى أن حلب أقدم مدينة في التاريخ 12000 ق . م . والموصل دلت اﻻكتشافات في منطقتها على استيطان بشري منذ 6000 ق . م . وهذا يعني أن المدينتين شهدتا عصور ما قبل التاريخ .
3 – في التاريخ القديم 4000 ق . م والمقصود ظهور الكيانات السياسية وبدايات التدوين المسماري . وتم ذلك في حوض الفرات ودجلة .. وفي حوض النيل . وخضعت كل من حلب والموصل للنفوذ السومري ثم اﻷكادي ( دخل ريموش اﻷكادي حلب 2525 ق . م ) . ثم ظهرت الممالك العمورية أواخر اﻷلف الثالث ق . م ( يمحاض في حلب . وماري على الفرات اﻷوسط . وبابل على الفرات اﻷدنى ) . بينما بدأ الظهور اﻵشوري في حوض دجلة شمال العراق في العاصمة نينوى على الضفة الشرقية لدجلة .
4 – كان ﻻبد لهذه الدول أن تتصارع في سبيل مد نفوذها غربا وأحيانا حتى مصر كما فعل اﻵشوريون . وكان التداخل الحضاري والثقافي واللغوي واضحا بين تلك الشعوب . وقد شيدت نينوى المعابد لﻹلهة “عشتار”الحلبية التي كانت مع اﻹله “حدد”يشمﻻن بﻻد الشام والعراق والخليج العربي .
5 – عام 853 ق . م تمكن “سلمنصر الثالث”الملك اﻵشوري من دخول حلب في طريقه لاجتياح الممالك اﻵرامية في العراق والشام والتي كان عددها 22 مملكة ( بعدد دول الجامعة العربية اليوم ). وكان انطﻻق جيوش سلمنصر من نينوى التي قابلها فيما بعد بناء مدينة الموصل
على الضفة الغربية لدجلة . وقد سقطت الدولة اﻵشورية على يد البابليين الجدد “الكلدان” 612 ق . م . ثم جاءت الدولة الفارسية اﻹخمينية 540 ق . م وكانت كل من حلب ونينوى في إطار نفوذ تلك الدولة .
6 – سقط اﻹخمينيون أمام اﻻسكندر المكدوني 333 ق .م . وقامت في شرق المتوسط الدولة السلوقية التي امتدت حتى الهند شرقا . ولم تلبث أن انحسرت إلى غرب الفرات أمام الدولة الفارسية الجديدة “الفرثيون” التي خضعت لها نينوى . بينما بقيت حلب تحت نفوذ السلوقيين الذين غيروا اسمها إلى”بيرويا” . ثم جاء الرومان 64 ق . م ليحتلوا شرق المتوسط وجنوبه . وتدخل حلب في سلطتهم . بينما بقيت نينوى”الموصل”تحت سلطة الفرس الذين
قامت امبراطوريتهم الثالثة الساسانية .. واستمر الصراع الفارسي-الروماني .. ثم الفارسي -البيزطي لعدة قرون بين مد وجزر وأخذ وعطاء دفعت ثمنه بﻻدنا دمارا وقتﻻ وفقرا وظهر ما يدعى بالمدن الميتة .
7 – عام 637 م حصل اﻻنعطاف التاريخي الذي كان إعادة اعتبار للشرق الذي احتله اﻷوربيون لمدة الف عام . وذلك من خﻻل معركة اليرموك التي أنهت نفوذ الروم . ومعركة القادسية التي أنهت نفوذ الفرس بعد انتصار العرب المسلمين . وبذلك تدخل كل من حلب والموصل مرحلة مستمرة حتى اليوم .
8 – في التاريخ اﻹسﻻمي لعبت المدينتان دورا محوريا في كثير من الحاﻻت المؤثرة لعل أبرزها مرحلتا الدولة الحمدانية ثم الدولة الزنكية .
والحمدانيون فرع من قبيلة تغلب العربية الكبرى .وقد استعان بهم الخليفة العباسي”المتقي”لتوطيد حكمه .. وكافأهم بمنح إمارة الموصل لناصرالدولة الحمداني 929 م . وهذا بدوره منح حلب ﻷخيه سيف الدولة 945 م وهو الذي دخل التاريخ من خﻻل تصديه للغزو البيزنطي .. وأهم من ذلك لبﻻطه الفكري واﻷدبي الذي شهد أئمة الشعر واﻷدب والعلوم الذين كانوا أوائل على مدى التاريخ العربي : المتنبي . الفارابي . ابن جني . الخوارزمي . أبو الفرج اﻷصفهاني . الصنوبري . كشاجم ……
وقد امتدت الدولة الحمدانية على شمال العراق وشمال ووسط بﻻد الشام واﻷناضول . ودامت حتى 1003 م حينما أسقطها الفاطميون في حلب .
لكن الدور الكبير لمحور حلب – الموصل تمثل خﻻل حروب الفرنجة ( الحروب الصليبية بالتسمية اﻷوربية ) والتي دامت من 1098 حتى 1291م وهذا الدور المحوري للمدينتين بدأ مع حصارالفرنجة لحلب 1124 م مع بعض القبائل العربية الخائنة . وقام وفد من حلب برئاسة أبي الحسن بن الخشاب بالذهاب الى الموصل طلبا للمساعدة من اميرها “أقسنقر” الذي لبى الدعوة وفك الحصار عن حلب. وقد قتل غيلة 1127 م وخلفه ابنه عماد الدين الزنكي في حكم الموصل وحلب .. وكان ذلك تحوﻻ من الدفاع الى الهجوم في تلك الحروب . وتمكن جند حلب بقيادة عماد الدين من تحرير “الرها”وطرد الفرنجة منها1144 م . واغتيل عماد الدين 1147 م ليخلفه ابنه نورالدين محمود الذي اتخذ حلب عاصمة للبناء والتعليم وإعداد الجيوش تمهيدا لتحرير القدس .. وهو من أعظم الرجال في التاريخ اﻹسﻻمي . وبقية الحروب الصليبية معروفة ودور صﻻح الدين وبيبرس فيها .
ومن جديد تتولى قبيلة”عقيل”العربية حكم الموصل ثم تمتد الى حلب اواخر القرن الحادي عشر الميﻻدي .
ومنذ اوائل القرن السادس عشر تكون حلب وﻻية في الدولة العثمانية . بينما تكون الموصل موضع صراع بين اﻷتراك العثمانيين والفرس الصفويين .
9 – الدور اﻻقتصادي : حلب والموصل من أهم محطات طريق الحرير الدولي بين شرق آسيا وأوربا .. ولذلك تتشابه المدينتان في اﻷسواق والخانات والصناعات ( قماش الموسلين ) والتجارة والمحاصيل الزراعية والمناخ .
10 – والﻻفت للنظر ذلك التطابق العجيب في التركيب الديموغرافي بنسبة كبرى للعرب مسلمين ومسيحيين . ووجود أقليات كاﻷكراد والتركمان والسريان واﻵشوريين واﻷرمن والشركس … . وكل ذلك في إطار من التسامح وقبول اﻵخر والوحدة الوطنية . ومن المفيد أن نذكر هنا أن العرب كانوا جزءا من النسيج السكاني لتلك البﻻد منذ اﻷلف الثاني ق . م . ومن أمثلة ذلك قبائل : بكر وتغلب وجندب وتنوخ وربيعة ومضر وطيء ولخم وجذام وشيبان وغسان وكندة ونمير وإياد …
11 – وهاهما المدينتان اليوم وهما تقاسيان آثار الدمار والتقتيل والتهجير واﻻستنزاف .. كما تتخوفان من سيناريوهات ما يسمى إعادة اﻹعمار التي قد تعمد إلى تغيير الرداء الحضاري والتراثي والبشري والعمراني للمدينتين بحيث تتغير مﻻمح شخصيتهما التاريخية قسرا .. وهذا ما نرفضه على كافة المستويات.
*باحث ومؤرخ – سوريا
زر الذهاب إلى الأعلى