رأي

حكومة الإنقاذ والتعافي: الأولوية لتوفير مستلزمات النهوض والتأسيس لنمو مستدام(غسان بيضون)

 

الحوارنيوز – صحافة

 

تحت هذا العنوان كتب غسان بيضون* فصحيفة الجمهورية:

إنّ تاريخ تشكيل الحكومات في لبنان حافل بالعِقَد، التي لطالما أعاقت ولادتها ضمن «المهلة المعقولة» بين التسمية والتأليف، وأدّت إلى استمرار حكومات تصريف الأعمال في مهامها لسنوات؛ إذ لو احتسبنا عدد حكومات ما بعد الاستقلال وحسمنا فترات عدم انتظام العمل الحكومي لما تجاوز معدّل عمر الحكومة السنة الواحدة.

لقد انتظر اللبنانيّون بفارغ الصبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد فراغ طويل تلا الإنهيار، ووصل فيه عجز الدولة عن القيام بمهامها، بمختلف إداراتها ومؤسساتها ومرافقها، إلى شفير الانحلال. وتحققت معجزة التأليف بعد أن تبرمجت جلسة الانتخاب وهُندِس تاريخ انعقادها على وقع وقف إطلاق النار واستحقاقات خارجية، على أمل حصول انفراجات وتنظيف طاولة الإقليم من الاضطرابات.

وإذا بالحرب وانتهاكات وقف إطلاق النار والخروقات تستمر على الحدود من جانب واحد، وتترافق مع ضغوط خارجية وانقلاب على سلة تفاهمات كان تمّ التوصّل إليها بين جلستَي الانتخاب في 9 كانون الثاني، بعد فراغ تجاوز السنتَين، تسبّب به إصرار تيارات سياسية على التعبير السلبي عن وزنها السياسي من خلال قدرتها على التعطيل، وكان نصيب بعضها الخروج من السلطة والإحباط.

بعد شهر بالتمام والكمال انقضى بين «تاسعَين»، أولهما من كانون الثاني، يوم انتخاب رئيس جديد للجمهورية بـ99 صوتاً، وثانيهما في شباط يوم عيد مار مارون، الذي خرجت الحكومة الجديدة ببركاته، ليكتمل عقد إعادة تكوين السلطة، بصدور مرسوم تشكيلها، مكلّلاً بالتوفيق بين خطاب القَسَم ومعايير اختيار الوزراء، التي حدّدها الرئيس المكلّف بـ 4 تبدأ بفصل النيابة عن الوزارة، الذي يساهم في تفعيل رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، ويضع الوزراء المقصّرين تحت المساءلة وطرح الثقة، وتنتهي بحظر التمثيل الحزبي الظاهر واختيار المرشحين للتوزير من سلة «الكفاءات الوطنية».

وإذا من بين وزراء الحكومة الجديدة غرباء، منبتهم شركات عالمية لا خبرة لهم في إدارة مصالح دولة؛ ولطالما بيّنت التجارب الماضية عدم نجاح هذا الخيار، باعتبار هؤلاء يحملون تصوّرات مستقاة من تجارب خارجية يتعذّر نجاحها في معالجة الأزمات التي تعاني منها الإدارة والوزارات في لبنان، بسبب اختلاف واقع هذه الإدارة والوزارات والظروف الموضوعية والإطار القانوني الذي تعمل ضمنه ويرعى أنشطتها قانوناً.

وبما أنّ عمر الحكومة الجديدة قصير لن يسمح بإحداث التغيير المرجو حيال أزمات مزمنة ومعقّدة، في ظل موازين قوى داخلية غير مستقرة نتيجة التنازع حول وجهة الإدارة السياسية المقبلة للدولة اللبنانية، المؤيّدة بقرار، إن لم نقل برغبة خارجية تلقى دعماً من بعض قوى التغيير من الداخل، واعتراض أخرى ما زالت حتى اليوم، وبالمعنى الديموقراطي «النظيف»، تحتفظ بتأييد شعبي واسع؛ ناهيك عن عمق الأزمات المزمنة التي تعاني منها الإدارة اللبنانية، التي فشلت في معالجتها وزارة الإصلاح الإداري المنشأة عام 1992، لتتولّى مهام تنمية مختلف قطاعات الإدارة كمقدّمة ضرورية لتحفيز نمو الاقتصاد وتوفير ظروف الازدهار.

أمّا وقد تشكّلت الحكومة برئاسة القاضي والسفير نواف سلام الآتي من خارج الطبقة السياسية التقليدية، ومعه وزراء لم يسبق لهم أن تولّوا مهام إدارة مصالح الدولة، ما عدا الوزير والنائب السابق ياسين جابر المتمرّس في شؤون لجنة المال والموازنة، وصاحب الخبرة في متابعة تنفيذ القوانين، ويتولّى اليوم حقيبة المال، والآمال معلّقة على حضوره وأدائه في هذه الظروف الصعبة والشديدة التعقيد مالياً واقتصادياً، والحافلة بتداعيات الانهيار المالي التي بدأت بإفلاس الخزينة، وتوقف الدولة عن سداد ديونها وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي وتآكل أموال المودعين المحتجزة تحت طائلة المزيد من الاقتطاع تحت عنوان «توزيع الخسائر»، ولا تنتهي بأزمة الكهرباء العميقة وشلل الإدارة وتفشي الفساد في قطاعات واسعة منها، تشكّل المصادر الرئيسية للموارد المالية للدولة، وعلى رأسها الشؤون العقارية والجمارك والضريبة على القيمة المضافة والمحروقات ورسوم السير؛ ناهيك عن أملاك الدولة البحرية والعقارية والمشاعات في مختلف المناطق، وعجز المرافق الحيوية عن تأمين أبسط حقوق المواطن من خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات والنظافة.

لأنّ المالية هي أم الوزارات ورافعة إعادة بناء الدولة ونمو الاقتصاد بمختلف قطاعاته، ولأنّ واقع أوضاع المالية شديد التعقيد ويستدعي مباشرة البحث في سبل تعزيز الشفافية على مختلف مستويات حركة المالية العامة، فإنّ الأنظار متّجهة والآمال معلّقة اليوم على أدائها ومعها وزارة الطاقة والمياه.

وإذا كانت خبرة الوزير جابر والثقة بشخصه المستقاة من ارتقابه للانهيار قبل سنوات من حصوله، وإدراكه لأهمية تأمين مستلزمات تفعيل الرقابة الضريبية، وتحسين أداء مختلف المديريات والوحدات التابعة لوزارة المالية، وخصوصاً إدارة الجمارك، ومديرية الواردات والضريبة على القيمة المضافة، المفترض فصلهما، بما يوفّر إدارة أسهل وحماية أفضل للمال العام، ويضمن حفظ حقوق الدولة.

ولا بُدّ هنا من الإشارة إلى أهمية رفع مستوى أداء النظم المعلوماتية المعتمدة ويُديرها المركز الإلكتروني، والتحقق من فعالية ضوابطها والحمايات المعتمدة لمنع خرقها، وتطويرها بما يُزيل العوائق التي تحول دون التزام المكلّفين بالضريبة بموجباتهم لناحية التصريح ضمن المهل القانونية، ومراجعة العلاقة مع الشركات الوسيطة في تحصيل الضرائب والرسوم لصالح الخزينة، بما يضمن التحقق من سلامة الأطر القانونية السليمة التي ترعى العلاقة مع هذه الشركات، ومن توفّر الضوابط المناسبة والكافية لانسياب الأموال المحصلة بواسطتها بأمان ضمن تلك الشبكة الواسعة التي تتشكّل منها ووصولها كاملة وفي الوقت اللازم، وإزالة التعقيدات التي تعوق عمليات تسجيل عقود الانتقال العقارية، بما فيه تراكم معاملات القِيَم التأجيرية بالآلاف بانتظار تحديث الضوابط المعتمدة في التخمينات المعتمدة لاحتساب الرسوم العقارية، ومعالجة أزمة الطوابع وتوفير البدائل القانونية والتقنية لها، بما يضمن ضبط مردودها ومنع احتكارها ووقف الفساد المستشري ضمن نطاق طباعتها وحفظها وتوزيعها وتداولها.

إنّ سيرة الوزير جابر ومسيرته وخبرته في التعاطي مع المؤسسات المالية الدولية، وفي الاتفاقيات التي ترعى علاقة لبنان بالبنك الدولي وصندوق النقد، وبصفته وزير الوصاية على مصرف لبنان، تكفي لارتقاب أن يشكّل أداؤه علامة فارقة حكومياً خلال هذه المرحلة، لا سيما في توفير مستلزمات الإنقاذ والتعافي المالي والاقتصادي والمصرفي الأساسيَّين في مسار عملية إعادة بناء الدولة المفترض أن تستمر بعد إعادة تكوين السلطة والتأسيس لنمو مستدام، يساهم في سداد ديون الدولة وإعادة أموال المودعين.

يبقى السؤال مطروحاً حول قدرة الوزير جوزف صدّي على التصدّي لأزمة الكهرباء المزمنة، والخروج بتفكيره من صندوق خطط أسلافه على مدى الـ15 سنة الماضية، وإخراج البلد من دوامة فشلها ومستنقعات الهدر والفساد المستشري في قطاع الطاقة والمياه بمختلف مؤسساته وهيئاته.

وإذا كان لنا من نصيحة نسديها، في إطار معالجة أزمة الكهرباء، نكرّر باختصار بنود خارطة الطريق المستقاة من خطاب القَسَم، التي وردت في مقال سابق نُشر في جريدة «الجمهورية»، وهي:

– ملء الشواغر في وزارة الطاقة والمياه على مستوى المديريات العامة والمديريات والمصالح التابعة لها؛

– تأهيل المبنى المركزي لكهرباء لبنان وإعادة بناء مركز التحكّم التابع لها؛ وتعزيز أوضاع هذه المؤسسة من خلال ملء الشواغر في مجلس إدارتها رئيساً جديداً وأعضاء، وتعيين مدراء أصيلين للمديريات الملحوظة في هيكليتها؛

– إنشاء مديرية الطاقة المتجدّدة المنصوص عنها في قانون إنتاج الطاقة المتجدّدة الموزّعة؛

 

– العودة عن خطأ الاعتماد على اليد العاملة الموقتة وملء الشواغر في مختلف الوحدات والوظائف القيادية المالية والقانونية والفنية في المؤسسة، بصيغة لا تتعارض مع تطبيق قانون تنظيم قطاع الكهرباء 462 /2002؛

– إعادة النظر بعقود تشغيل وصيانة معامل الكهرباء التابعة للمؤسسة، وغيرها من الخدمات المفترض أن يتولاها مهندسون ومستخدمون من المؤسسة؛

– إعادة النظر بالتعرفة وإزالة مخالفاتها الفادحة وبرسومها الثابتة، والإلتزام بموجب إعادة النظر بها دورياً وفقاً لانخفاض أسعار النفط، تطبيقاً لقرار رفعها؛

– إلغاء الوحدات والكيانات التي تعمل من دون مسوّغ شرعي في إطار القطاع؛

– إعادة النظر بتراخيص إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية الممنوحة بموجب قرار مجلس الوزراء تاريخ 12 أيار 2022 المخالف للقانون؛

ولأنّ الدستور يهدف إلى تحقيق الإنماء المتوازن، ولأنّ خيار التنمية المستدامة في إطار اللامركزية الموسّعة قد التزمت الحكومات المتعاقبة باعتماده سبيلاً لتحقيق العدالة والحماية الاجتماعية وتوفير حقوق المواطن في الخدمات والأمان، على قدم المساواة أينما حلّ وأقام؛ وأنّ صلاحية المجلس البلدي تشمل كل عمل له طابع المنفعة العامة، ولأنّ هناك تجارب في تأمين الكهرباء لبعض المدن والقرى المحيطة بها عن طريق الامتيازات، التي لطالما جرى منحها استجابة لمطالب الأهالي عن طريق بلدياتها المسؤولة اليوم عن نقل أمنيات مواطنيها إلى السلطات ومراقبة أداء المؤسسات ومختلف المرافق الخدماتية ضمن نطاقها من مياه وكهرباء واتصالات ونظافة وصحة، ورفع التقارير حول أداء هذه المرافق؛ نقترح استصدار قانون يُجيز للبلديات واتحادات البلديات إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجدّدة بالتعاون مع القطاع الخاص.

 

*المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة. خبير في المعهد اللبناني لدراسات السوق

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى