حكاية رجل في زمن الكورونا..
الحوار نيوز – خاص
"لم يعد بحوزتي سوى عشرة آلاف ليرة".
ونظر إلى زوجته ملياً وكأنه لم يستوعب كلامها، أو كأن ويلات الشهور الأخيرة قد فعلت في نفسه فعلاً لم يعد بعده ما يمكن أن يكدّر حياته.
وُلد عند نهاية الحرب الأهلية، ولقد سمع وقرأ عنها كثيراً، لكنه رأى آثارها البالغة في كل التفاصيل اللبنانية، في البشر والحجر وانقطاع الماء والكهرباء وإشارات المرور، وفي الحرية المتفلّتة التي لا حدّ لها ولا ضابط، وفي وجوه الزعماء والمسؤولين والسياسيين ذوي الوجوه الكالحة والكلمات الممجوجة والثقة العالية بالنفس سواءً في كذب الحديث أو صدقه. وكان يعتبر أن زعيمه المفدّى يختلف عن غيره، وإن كان في قرارة نفسه يجهل السبب أو يهرب من حقيقته.
لم تكن حياته بائسة قبل غزو كورونا، ولكنها كانت مستقرّة إلى حدّ ما، طالما لم يفاجئه الدهر بخطوبه ومآسيه، وكانت زوجته تعرف إمكانيات زوجها فلا تكثر في طلب ما لن تناله، بل كان يكفيها أن ينام ولداها آخر النهار شبعيْن، ويذهب كبيرهما في أوله إلى مدرستهما ولو كانت شديدة التواضع مقارنة بأخواتها من المدارس الأخرى.
تحمّله رب عمله شهرين واعتذر إليه بعدهما، فالمؤسسات التجارية في طريقها إلى الإفلاس، والدولار المرتفع وباء أشد قسوة من الوباء، والقروش البيضاء التي جناها لأكثر من عشر سنين التهمتها البنوك السوداء. فباع دراجته النارية التي كانت سلوى أسرته، لا بأس فلن يطول الأمر وسيستعيض عنها بسيارة يقترض ثمنها من البنك كما فعل من قبل، واستبدل تلفونه بآخر أقل ثمناً، إذ ليس الآن وقت للتكنولوجيا وتفاهاتها، وقطع اشتراك موتور الكهرباء، أوليس في الظلام منحى رومانسي افتقده منذ سنوات، وباعت زوجته سوارين وخاتماً، حصيلة زواجها منه. ولم يعد هناك ما يمكن بيعه أو الاستغناء عنه، فلم يكن في حياته قبل كورونا وارتفاع الدولار شيء من الترف.
ونظر إلى ولده الذي لم يبلغ السنتين من العمر، إنه يضحك دوماً، لماذا يضحك؟ لماذا يضحك؟ إن ذلك يؤلمه، يغيظه، يقتله. لو كان يبكي لكان الأمر أهون عليه، ولاعتبر بكاءه ردة فعل طبيعية لسواد الواقع وحرقته. لكن ضحكه يؤكد على حقيقة جارحة، وهو أن البراءة لا تفقه العذابات، مهما اشتدّ أُوارها، وعظم بلاؤها. إن للطفولة احتياجات لا بد أن تُلبّى، فسحقاً للدولار، وسحقاً لكورونا، وسحقاً للزعيم الذي طالما هتف باسمه، فللطفولة احتياجات لا بدّ أن تُلبّى، ولا بدّ أن يفعل أي شيء، أي شيء، ليلبي نداءها.
كثيراً ما كان يستغرب مشاهد من يبحثون في حاويات النفايات لسد رمقهم وأولادهم، وكثيراً ما استنكر ذلك على اعتبار أننا لم نصل إلى هذا الحد. ولكنه اليوم يستعرض في مخيلته عدد الحاويات المنتشرة في منطقته، وفي أي من شوارعها يسكن الأغنياء، ويخجل من نفسه وزوجته ومرآة الغرفة من مثل هذه الأفكار.
وكثيراً ما كان يحتقر اقتحام لصوص لمؤسسات تجارية وسرقتها، فعنوان السرقة هو الإجرام، واللص فرد حقير من أفراد المجتمع، ويجب أن ينال جزاءه بكل قسوة. فهل تتغيّر المفاهيم عندما تضيق الأرض بنا؟ وهل لهذه المفاهيم معانٍ ثابتة أم أنها تتبدّل بتبدّل الظروف والأوضاع؟ أليست غالبية الطبقة السياسية التي نبارك طلّاتها وخطاباتها وأصواتها ووجوهها، لصوصاً قتلت فينا الآمال والأحلام، بل قتلت فينا كل جميل؟
إن في يده كيساً كبيراً لما يمكن استخراجه من النفايات، ولا شك أنه سيسد رمق ولديه، لكنه لن يسكت فضول زوجته وسؤالها عن مصدر الرزق الفجائي. وإن في يده الأخرى سكيناً لما يمكن انتشاله من سرقة تلك المؤسسة الكبيرة في المنطقة الأخرى، وسيسد منه رمق ولديه ولن يسكت فضول زوجته. لكنه لا يعرف أي الإتجاهين سيسلك. وفي الحالين لن يكون نفسه سواءً نجح في مهمته أو فشل، ولن يستطيع بعد ذلك أن ينظر إلى المرآة ولو ليسرّح شعره أو ليحلق ذقنه أو ليزيل من عينه القذى.
ستنام زوجته بعد قليل، فلم تعد الشرفة تحضن تواجدهما عندها والأحاديث العابرة المتنوعة منذ أن استبدت الأوضاع وخلّفت البؤس في كل مظهر من مظاهر حياتهما، وكأن الطاقة يجب أن تُبذل في تأمين لقمة العيش فقط، ولا شيء غير لقمة العيش.
وبعد قليل، خرج الشاب الثلاثيني إلى هدف لا يعرف اتجاهه، وطريق ستحدد مسلكه الدقائق المقبلة، وكل ما في جعبته سكين يحرص على إخفائه في جيب سترته، وكيس كبير يحرص على إخفائه أكثر في جيب بنطاله…