كتب حلمي موسى من غزة:
كذبت إسرائيل وصدّقتها أمريكا. كذبت إسرائيل وصدقها الغرب. كذبت طوال الحرب من يومها الأول إلى يومها الأخير ،ولم تخجل أبدا من مواصلة ترداد الأكاذيب، حتى بعد افتضاح أمرها وأنها عديمة الصدقية.
والشيء نفسه يسري على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وضيق إسرائيل من الوكالة لا يعود إلى ما تؤديه من وظيفة معيشية وصحية في رعاية اللاجئين الفلسطينيين، وإنما لخصوصيتها السياسية. ورغم أن أونروا، على الأقل منذ اتفاقيات أوسلو فقدت الكثير من استقلاليتها وصارت أكثر خضوعا للرقابة الأمريكية، إلا أن إسرائيل غير راضية عنها. ويعود سبب انعدام الرضى أصلا لمبدأ إنشائها. فهي هيئة أممية مختصة برعاية اللاجئين الفلسطينيين ،وبذلك فإنها تختلف عن جميع الوكالات الأخرى التابعة للأمم المتحدة.
وكلما ظهر في الأفق تحرك نحو تسوية سياسية كلما عادت الأونروا لتحتل مركز صدارة سلبا أو إيجابا. وفي فترة من فترات التأزم الأمني في غزة جرى الحديث عن الوكالة وكأنها الحكومة التي تدير شئون الفلسطينيين في القطاع. وأوكلت للأونروا مهام تجاوزت اغاثة وتشغيل اللاجئين. وتقريبا في كل الحروب في غزة كانت إسرائيل توجه اتهامات للأونروا أكثرها كاذب. لكن في حرب غزة الأخيرة تجاوز الكذب كل الحدود. فمدارس الوكالة وعياداتها ومنشآتها باتت عرضة للتدمير ضمن خطة التدمير المنهجي لسبل الحياة في القطاع، شماله وجنوبه ووسطه. ويكفي مثلا قيام إسرائيل رسميا بتوزيع صورة لقطعة سلاح موضوعه في كيس طحين فارغ توزعه الوكالة. ومن دون تجاوز للمعطيات فإن ثلثي سكان قطاع غزة من اللاجئين وكثير منهم يتلقون معونات غذائية من الوكالة، فماذا يعني استخدام طحين فارغ كبيّنة على تسهيل الأمم المتحدة مهام “الإرهابيين” ومشاركتها في 7 أكتوبر. وكنت أتمنى لو أنها لاحظت أيضا أن بعض المقاتلين يلبسون أحذية أديداس أو بوما أو استخدموا أكياس نايلون من وكالات الإغاثة الأوروبية والأمريكية الأخرى لتغدو دليلا على مشاركة العالم في هجوم 7 أكتوبر.
في كل حال ما أن اتهمت إسرائيل الأونروا حتى تداعت أغلب الدول ،خصوصا صاحبة الموقف الذيلي لإعلان تعليقها تقديم المساعدات المالية للأونروا. وطبعا جاء هذا الإعلان في ظل أنباء عن مجاعة في شمال القطاع وشبه مجاعة في جنوبه، ما يجعل للقرار مفاعيل كارثية على الوضع الانساني في القطاع. وهذا ما دفع العديد من كبريات الصحف الأمريكية لمحاولة التدقيق في الاتهامات الإسرائيلية.
وكانت “نيويورك تايمز” بين أوائل الصحف اتي أجرت تحقيقا في هذا الشأن. ورغم أن نيويورك تايمز كذبت ب”اعتدال” العديد من الروايات والاتهامات الإسرائيلية طوال الحرب، إلا أنها حافظت على الدوام على فسحة من المودة لإسرائيل. في كل حال كيف تسربت المعلومات التي “تدين” أونروا، وفق تحقيق نيويورك تايمز.
في 18 يناير/كانون الثاني، التقى المدير العام للوكالة بدبلوماسي إسرائيلي كشف أمامه عن تورط موظفين من الوكالة في الهجوم. وفي غضون أسبوع تم نقل المعلومات إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة ، وجمدت دول كثيرة تمويل الوكالة. وكان من المفترض أن يكون اللقاء روتينيا حول إمدادات الغذاء والوقود وغيرها من المساعدات لغزة.
وفي نظر الصحيفة بدأ تسلسل الأحداث، كما ذكرنا، في 18 يناير/كانون الثاني، عندما التقى فيليب ليزاريني، مفوض أونروا، مع أمير فايسبرود، نائب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية الذي يشرف على العلاقات مع وكالات الأمم المتحدة، في تل أبيب. وكان اللقاء تقريباً يجري مرة واحدة في الشهر، لكن فايسبرود جاء إلى ذلك الاجتماع ومعه معلومات استخباراتية عن أونروا، قدمها له ضباط الجيش، حسبما قالت أربعة مصادر مطلعة على التفاصيل للصحيفة.
وكانت الاتهامات، التي تم إرسالها بسرعة إلى الأمم المتحدة وإدارة بايدن في الولايات المتحدة، خطيرة. فقد اتُهم 12 موظفًا في المنظمة بالمشاركة ودعم هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر. بالإضافة إلى ذلك، عززت هذه المزاعم الادعاءات المستمرة منذ عقود في إسرائيل بشأن وكالة الأمم المتحدة لإعادة اللاجئين، التي ادعت أنها متحيزة ضد إسرائيل ومتأثرة بحركة حماس وغيرها من الجماعات المسلحة ، وهي الاتهامات التي ترفضها الوكالة بشدة.
وأعلنت الأمم المتحدة الاتهامات يوم الجمعة 26 يناير/كانون الثاني، مضيفة أنه تم طرد تسعة من الـ12 بعد مقتل اثنين آخرين بالفعل، وأدى إعلان الأمم المتحدة إلى قرار العديد من الدول بتعليق تمويلها للمنظمة. وفي وقت لاحق، جاءت ادعاءات أكثر خطورة: “10٪ من 13000 عامل في الأونروا في غزة هم أعضاء في حماس”، وقد أدى هذا الادعاء إلى مزيد من تعليق الأموال من دول العالم.
والآن تقول الوكالة إن ميزانيتها قد تنفد بحلول نهاية الشهر. وقال لاتزيريني في بيان: “عمليتنا الإنسانية، التي يعلق عليها مليونا شخص كشريان حياة في غزة، تنهار”. في المقابل، استغل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو هذه اللحظة للدعوة إلى إغلاق وكالة الأونروا، وقال نتنياهو في خطاب ألقاه يوم الأربعاء الماضي: “مهمة الأونروا يجب أن تنتهي، ويجب استبدالها بمنظمة أو منظمات ستقوم بهذا العمل.”
وقال أحد المسؤولين للصحيفة: “قليلون توقعوا أن يؤدي الكشف عن المعلومات الاستخباراتية إلى عاصفة قريبا”. وأضاف: “لقد وجهت إسرائيل اتهامات كثيرة للأونروا على مر السنين، لدرجة أنه لم يتوقع أحد أن يكون هذا الادعاء هو السبب وراء ذلك”، ومع ذلك استغلت القيادة السياسية الإسرائيلية التطورات. وفي غضون يوم واحد، أعلن يسرائيل كاتس ودعا وزير الخارجية الأونروا إلى “استبدال الوكالات المكرسة للسلام الحقيقي”.
وبينما سارع النظام السياسي إلى استغلال هذه الأخبار، لا يزال الجيش الإسرائيلي يناقش ما إذا كانت المعلومات تساعد العمليات في قطاع غزة. وداخل المؤسسة العسكرية، لا يزال القادة والضباط الذين يحققون في تسرب المعلومات ويتعاملون مع العمليات في غزة يختلفون حول ما إذا كان إغلاق أونروا سيخدم إسرائيل أم لا. هذا ما تبدى من كلام منسق اعمال الجيش في المناطق المحتلة الجنرال غسان عليان لمسؤولين كبار في الإدارة الامريكية انه في هذه المرحلة لا يوجد بديل عن عمل وكالة الغوث (الاونروا) في قطاع غزة”.
وحسب صحيفة “إسرائيل اليوم” فإن عليان شرح في محادثاته مع الأمريكيين بان موقف إسرائيل هو أنه يجب استبدال الاونروا وانه يجب اعداد خطة حثيثة وسريعة لادخال منظمات إغاثة بديلة الى القطاع. وسبب ذلك هو العلاقات الوثيقة للوكالة مع حماس ومشاركة الكثير من رجالها في مذبحة 7 أكتوبر.
شدد عليان على أنه يمكن إيجاد منظمات إغاثة بديلة بما فيها منظمات من الأمم المتحدة. ومع ذلك شرح بأنه في هذه المرحلة لا يوجد جسم آخر يمكنه أن يوزع التموين الإنساني في قطاع غزة. وعليه فلا مفر في هذه اللحظة من مواصلة العمل مع الوكالة. يشار الى أن اقوالا مشابهة قيلت من جانب مسؤولين كبار في مكتب منسق الاعمال في أحاديث مغلقة على مدى الحرب. الى جانب ذلك، ينتقد منسق الاعمال الاونروا على الوتيرة البطيئة لادخال المساعدات الإنسانية التي سلمتها إسرائيل لها.
ونظرا لهذا الموقف علمت “إسرائيل اليوم” ان نتنياهو وجه تعليماته لرئيس أركان الجيش الجنرال هرتسي هاليفي لبلورة بديل للاونروا. وجاءت التعليمات في جلسة الكابينت الأخيرة. وحسب تعليمات نتنياهو، فان قيادة المنطقة الجنوبية ستتصدر الخطة لبلورة بديل للاونروا. ومع ذلك لم يتقرر جدول زمني ملزم لتنفيذ القرار. وأكدت محافل في جهاز الامن لـ “إسرائيل اليوم” بانه تجري دراسة لبلورة بدائل للوكالة الإشكالية. يشار الى انه في جهاز الامن وفي الساحة السياسية في إسرائيل يوجد توافق في الآراء بان الاونروا لا يمكنها أن تواصل العمل في غزة.
ومع ذلك فانه بزعم محافل مهنية فانه اذا ما توقفت العلاقة مع الاونروا فلن يكون هناك من يوزع المساعدات، وبالتالي ستقع ازمة انسانية. في إسرائيل يتوقعون ان يسمعوا موقف الولايات المتحدة بالنسبة لشكل ادخال المساعدات الى غزة، وسيسيرون على الخط بناء على ذلك. وكان ترامب قد تبنى الموقف الإسرائيلي الداعي لشطب أونروا، لكن هذا ليس موقف إدارة بايدن حتى الآن. كما أن الكثير من الدول الأوروبية حتى التي أعلنت تعليق التمويل لا ترى بديلا للأونروا قبل التسوية السياسية للقضية الفلسطينية.
وما أغاظ إسرائيل أكثر من أي شيء آخر أنه بعد رفض النرويج وقف تمويل الأونروا، أوصى ممثل كبير للحزب الحاكم بترشيحها لجائزة نوبل للسلام ، على الرغم من الاشتباه في مشاركة موظفي الأونروا في مجزرة 7 أكتوبر. سفير إسرائيل لدى النرويج قال: “من المستحيل عدم النظر إلى التوصية على أنها استفزاز، فضلا عن الحنكة الصبيانية لخداع العقول”.