حرّروا لبنان من فكَّي السوق !(زينب إسماعيل)

كتبت زينب اسماعيل – الحوارنيوز
لم يعد الاحتلال في لبنان جنديًا على الحدود فقط، بل صار نظامًا يتحكم بحياتنا اليومية من خلف شاشات المصارف وأسعار الدولار.
نعيش اليوم تحت استعمارٍ ينهبنا باسم الإصلاح، ويجوّعنا باسم السوق الحر.
إنها دعوة إلى المواجهة:
أن نكسر منطق السوق كما كسرنا يومًا الاحتلال، وأن نعيد بناء وطنٍ لا يبيع كرامته مقابل القروض والمساعدات.
استعمار جديد بثوبٍ أنيق..
لم يعد الاستعمار في لبنان مجرد صورةً عسكرية يمكن تحديدها على الخريطة.
صار يسكن في تفاصيلنا اليومية، يتسلّل إلى مطبخنا ومصرفنا وشاشة هواتفنا.
يبتسم في إعلانات البنوك التي تَعِدنا “بالراحة المالية”، ويخنقنا في أسعار الخبز والدواء والمحروقات.
الغزو لم يعد فقط جنديًا مدججًا بالسلاح، بل نظامًا اقتصاديًا بثوبٍ أنيق، يحمل دفتر شيكات بدل البندقية.
اذ اننا نعيش اليوم استعمارًا ناعمًا، يفرض هيمنته لا بالقوة، بل بالاقتناع.
يُعيد تشكيل وعينا كي نظنّ أن الخلاص لا يأتي إلا عبر السوق، وأن الدولة القوية هي تلك التي تفتح أبوابها أمام الخصخصة، وتُسعّر خبز الفقراء بالدولار، وتعتبر المساعدات الخارجية بديلاً عن الإنتاج الوطني.
إنه استعمارٌ يجعل من الفقر قدَرًا لا نتيجة، ومن التبعية “إصلاحًا” لا إذلالًا.
إنه استعمارٌ يُخفي قيده في لغة التقدّم.
طبقات جديدة من التبعية
اللبناني اليوم يُقسَّم لا بحسب طائفته فحسب، بل بحسب موقعه من السوق:
من يملك بطاقة مصرفية ما زالت تعمل، ومن يملك واسطة في المستشفى، ومن يستطيع أن يشتري دواءً مستوردًا أو مولّدًا كهربائيًا خاصًا.
هكذا تتشكّل طبقات جديدة لا تُحدّدها العقيدة أو الطبقة القديمة، بل القدرة على البقاء داخل السوق.
وحين تصبح الحياة اليومية مرهونة بمن يملك الدولار، يتحوّل المجتمع إلى ساحة استهلاكٍ لا ساحة انتماء، ويُستبدل التضامن الشعبي بالأنانية الاقتصادية.
وهكذا يتحوّل الانتماء إلى ترفٍ، والمواطنة إلى اشتراكٍ مدفوع الثمن.
السوق كدينٍ جديد
إن أخطر ما يواجه لبنان اليوم ليس فقط الفساد أو الانقسام، بل تحوّل السوق إلى دينٍ جديد يتسلّل إلى كل مجالات الوعي.
صار التعليم مشروعًا تجاريًا، والثقافة إعلانًا، والعمل التطوعي مشروطًا بتمويلٍ أجنبي، وحتى الانتماء الوطني أصبح يُقاس بالدخل والقدرة على السفر.
في ظل هذا المنطق، تُمحى الحدود بين الإنسان والسلعة، ويُختزل الوجود كله إلى قدرة على الشراء.
المقاومة تبدأ من المعنى
لكن التحرر لا يكون فقط برفع الشعارات.
إن معركتنا الحقيقية تبدأ من استعادة المعنى:
أن نُعيد تعريف الغنى والفقر، وأن نُعيد الاعتبار لما هو مشترك ومُنتِج، لا لما هو مملوك ومُستهلك.
لقد أثبتت ذاكرة اللبنانيين أن المقاومة الاقتصادية ممكنة.
في سنوات الحرب، حين انقطعت الطرقات وانهارت الدولة، قامت الأحياء على لجانٍ شعبية تنظّم توزيع الخبز والوقود والدواء.
خلق الناس اقتصادهم الموازي، وأثبتوا أن التضامن يمكن أن يكون بديلاً عن السوق، وأن المشاركة يمكن أن تُغني عن التمويل الخارجي.
لم تكن تلك التجارب حنينًا إلى الماضي، بل نواة مشروعٍ اجتماعيٍّ جديد، يمكن أن يُبنى على التعاونيات الزراعية، والمشاريع الصغيرة، وشبكات المعرفة الحرّة.
المقاومة بالوعي والإنتاج
إن مقاومة السوق اليوم لا تقلّ قداسة عن مقاومة الاحتلال بالأمس.
فكما يُقاوَم العدو بالبندقية، يُقاوَم السوق بالوعي والإنتاج.
أن نزرع أرضنا بدل أن ننتظر المساعدات، أن نُنتج خبزنا بدل أن نستورد الدقيق، أن نبني شبكات تضامن تربط القرى بالمدن، والطلاب بالعمال، والمنتجين بالمستهلكين، فهذه كلها أفعال تحرّر.
ليس المطلوب ثورة غضبٍ عابرة تنتهي بتعبٍ جماعي، بل ثورة وعيٍ طويلة النفس، تُعيد بناء العلاقة بين الإنسان وأرضه، بين الفرد وجماعته، بين العمل والكرامة.
أن نكفّ عن النظر إلى الغرب بوصفه النموذج الوحيد للنجاح، وأن نكفّ عن قياس الكرامة بعدد الحقائب في المطار أو أكياس التسوّق.
من فكّي السوق يولد لبنان آخر
أن نتحرّر، يعني أن نعيد تعريف الرفاهية بأنها المشاركة لا الامتلاك.
أن نحيا بالبساطة لا بالفقر، وبالكرامة لا بالاستهلاك.
أن نعيد إلى الكلمات معناها الأول:
العمل فعل انتماء، الزراعة فعل مقاومة، والتعليم فعل تحرّر.
حين نُمسك بالمحراث بدل بطاقة الائتمان، نتحرّر.
حين نتبادل المعرفة دون شروط المموّل، نتحرّر.
حين نحيا بالكرامة ولو بأقلّ الموارد، نتحرّر.
لبنان لا يحتاج إلى “خطة إنقاذ” تُصاغ في مكاتب المانحين، بل إلى استعادة الوعي الجماعي بأن الخلاص لن يأتي من الخارج.
فالتحرير يبدأ من لقمة الخبز التي نصنعها بأيدينا، ومن الكلمة التي تُقال بصدقٍ وكرامة.
ومن فكّي السوق سيولد لبنان آخر: لبنان العمل والمعرفة والمقاومة، لا لبنان المصرف والوصاية والتمويل.
لبنان يختار الحياة، لا الربح.


