حريريّون ضدّ الحريريّة (نبيه البرجي)
![](https://al-hiwarnews.com/wp-content/uploads/2025/02/6158328651272275423-9-1.jpg)
الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب نبيه البرجي في صحيفة الديار:
اذا كانت المقاومة في لبنان قد هزمت لأنها، بامكانات محدودة وفي ظروف مستحيلة، كانت تواجه أعتى قوة في التاريخ، هل يعني ذلك أن على القوى الداخلية المعادية لها، أن تهلل لانتصار “اسرائيل”، كنموذج مروع للبربرية، أو لانتصار أميركا الذي قال سفيرها المعين لدى أورشليم (أجل أورشليم) مايك هاكابي، وقد رفض “الكلمة البغيضة” أي الضفة الغربية، “ان التغيير في الشرق الأوسط سيكون بأبعاد توراتية”. هكذا على العرب أن يطوفوا برؤوس حافية حول الهيكل، بدل الطواف بأقدام حافية حول الكعبة.
لقاءات كثيرة مع الرئيس الراحل (والكبير) رفيق الحريري. لبناني حتى العظم، وعربي حتى العظم، وله مفهومه الرائع للمقاومة، دون أن تكون له أي صلة بالطائفية أو بالطوائفية. عشية احدى الانتخابات النيابية، أطلعني صديق له ممن لا يتزلف ولا يتملق، على مجسم يظهر كيفية توزيع المعونات على العائلات السنية. قلتُ له اذا تحول الرجل الى زعيم سني، وهو يمتلك كل مواصفات الزعيم اللبناني، لا بد أن تتلاشى الهالة التي تحيط به. نقل اليه كلامي، للحال تغير شكل المجسم.
كثيرون ممن يحملون الآن قميصه المحترق (في تلك اللحظة التراجيدية)، ويستخدمونه لتكريس ثقافة التأجيج، كانوا يتهمونه بأسلمة وسط بيروت الذي حولته الحرب الى أدغال، وجعل منه معجزة معمارية. كل الذين التقوا سعد الحريري بالدماثة المعروفة، لم يلاحظوا أي لمسة طائفية في شخصيته.
من القلب نرحب بالشيخ سعد الذي نتمنى عودته الى الساحة السياسية، لاحتواء تلك الرؤوس التي يبدو أنها خرجت للتو من الكهوف، لنقول له من موقع العقل لا من موقع الغريزة، انتبه اليوم الى كلمتك، السيد حسن نصرالله لم يعد هناك، لكن بنيامين نتنياهو الذي حوّل عشرات البلدات في الجنوب الى ركام، يريد اقامة الدولة الفلسطينية في المملكة العربية السعودية. بشار الأسد لم يعد هناك، وكان يفترض أن يغيب بعدما وصلت سورية الى حد الاختناق، ان بفعل الحصار أو بفعل التحالف القذر بين بارونات المافيات وبارونات الاستخبارات. ولكن أين هي سورية الآن ؟ ورقة يلعب بها السلطان العثماني في كل الاتجاهات.
رفيق الحريري العروبي، كان عاشقاً لذلك البلد الذي قال فيه الفيلسوف الفرنسي جان ـ بيار فيليو “في كل منا جزء من سورية”، وما زال سعد الحريري عاشقاً لها (زوجته من هناك) ، أي عروبة من دون سورية. وكنا نتمنى لو كان جرى التغيير بأيدي من يدركون ديناميات التفاعل مع القرن، لا بايدي من كانوا يشتكون بأنهم يعاملون كما أكياس القمامة على أرصفة اسطنبول. ولا بأيدي حملة الرايات السوداء بالأدمغة السوداء…
الحريري لا طائفي، والحريرية لا طائفية. لكن ما لاحظناه أن ناطقين باسم الحريرية على الشاشات، يذهبون في مواقفهم الطائفية الى حدودها القصوى، لا يرون أمامهم سوى المقاومة لينهشوا لحمها، جنباً الى جنب مع من نثروا الورود على دبابات آرييل شارون، ومن يعتبرون أن طريق الخلاص هو الطريق الى أورشليم لا الى مكان آخر…
هؤلاء يشكلون خطراً وجودياً على الحريرية (وان كان المصطلح ذا بعد قبلي)، بعدما أفضت ثفافة نبش القبور الى موت الزمن فينا (التونسي عبد الوهاب المؤدب رأى في ذلك موت الله فينا)، لكأننا الحجارة الميتة على رقعة الشطرنج. لذا نتمنى على سعد الحريري الذي دفع ثمناً باهظاً لرفضه الفتنة الكبرى، التي طالما “اشتغل” عليها “الاسرائيليون” الذين يرون في لبنان، بالتفاعل بين الأديان والثقافات، المثال القاتل للنموذج التوراتي.
قد يؤخذ الحريري اليوم بالموجة الشعبوية الراهنة. حملة السكاكين كثر، وهم يعتبرون أن انتصار “اسرائيل” (وأي انتصار اذا كانت على حافة الانفجار؟) انتصار لهم، وأن العودة الى الطربوش العثماني الذي أودعنا الظلم والظلام لأربعة قرون، وهي قرون الانتقال الى الزمن الآخر، هي كالعودة المظفرة الى الخلاص. رجل دين لبناني خاطب رجب طيب اردوغان “ادخل الى دمشق غازياً أو فاتحاً”. يا رجل دمشق ليست القهرمانة، وأهل دمشق ليسوا الانكشارية…
اطلالة بانورامية من الشيخ سعد على واقع المنطقة، وعلى طبيعة التحولات، بعيداً عن منطق الذين لا يرون الاشياء الا من ثقب الباب. رفيق الحريري رجل الأفق لا رجل الغيتو، قال بقدسية المقاومة. اليوم اختبار تاريخي. أهل السنّة أهل الأمة. لتكن من يحمل الشعلة ضد “اسرائيل”، لا من يرى فيها التوأم الطبيعي للبنان، اذا عدنا الى الوثائق التي تقشعر لها الأبدان.
لنقرأ ول ديورانت، صاحب “قصة الحضارات” الذي يعتبر أن التاريخ، وفي احيان كثيرة، يلعب ضد التاريخ. ذات يوم قال لنا المفكر المصري الفذ جمال حمدان “لكأننا في ذلك الهبوط المتواصل من يدي ابن رشد الى ردفي فيفي عبده”. هو من لاحظ أن الجماهير (جماهيرنا) لا تهزج ولا تهدر الا للهباء، عندنا لا تهزج ولا تهدر الا للطائفية، كخيار أعمى للمجتمعات.
سعد الحريري الذي رفع رفاقه في “تيار المستقبل”، وبمناسبة انقضاء عشرين عاما على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، شعار “بالعشرين ع ساحتنا راجعين”، أمام اليوم الكبير ، الرجوع الى الأمام لا الرجوع الى الوراء.
كثيرون حول الضريح اليوم بأقنعة الأصدقاء وبوجوه الأعداء للحريري الأب، وللحريري الابن. لا تكن رجل اللحظة ، كن رجل التاريخ…