حرب «العالم المتشظّي» | روسيا في العام الثاني: كسْر «الطوق» هدفاً ثابتاً
الحوارنيوز – الأخبار
تحت هذا العنوان كتبت وليد شرارة في الأخبار يقول:
«حرب كلمات حول أوكرانيا»، هو التوصيف الأدقّ، وفقاً لـ«بوسطن غلوب»، للخطابَين المتقابلَين للرئيسَين الروسي والأميركي، المتزامنَين مع الذكرى الأولى لاندلاع النزاع في هذا البلد. أمّا «اللوموند»، فقد اختارت لافتتاحيّتها العنوان الآتي: «حرب ورؤيتان للعالم». البعد العالمي للحرب طغى في الخطابَين، إذ رأى جو بايدن أن «طاغية مصمِّماً على إعادة بناء إمبراطورية لن يتمكّن من القضاء على تطلُّع شعب إلى الحرية»، بينما أكد فلاديمير بوتين أن الغربيين، «بعد قرون من الاستعمار والهيمنة والتحكّم، يريدون الإجهاز علينا بشكل كامل». ذلك البُعد، في الواقع، لم يعُد موضع نقاش منذ الأسابيع الأولى للحرب، مع حالة الاستنفار العام في «الغرب الجماعي» دعماً لأوكرانيا، لكن المعركة الأيديولوجية – السياسية حول الطبيعة الفعلية لتلك الحرب هي التي ما زالت مستعرة. الخطاب الرسمي الغربي يقدّم الصراع على أنه حربُ تَوسّع إمبراطوري روسي؛ وروسيا، من جهتها، ومعها قسم عظيم من جنوب العالم، يصرّان على أنها حرب دفاعية هدفها كسْر استراتيجية احتواء وتطويق روسيا من قِبل حلف «الناتو»، والتي تُمثّل استمراراً لاستراتيجية الاحتواء التي اعتُمدت ضدّ الاتحاد السوفياتي، وأدّت إلى انهياره وتفكّكه.
التوصّل إلى تعريف دقيق لطبيعة أيّ حرب أو نزاع، أي معرفة ما إذا كان عملية دفاعية أو عدواناً استعمارياً، ليس «ترفاً نظرياً»، بل هو تحدّ سياسي مركزي يسمح بفهم خلفيّات أفرقائها، ومَراميهم، ومآلات الصراع المحتمَلة. ما ينجم عن أيّ حرب من قتل وحشي وتطاحن ودمار، ينبغي أن لا يَحول دون إدراك أنها «استمرار للسياسة بوسائل أخرى»، وفقاً لتعريف كلاوزفيتز، أو أنها «أعلى أشكال الصراع لحلّ التناقضات بين الطبقات والأمم أو الدول أو المجموعات السياسية، عندما تتطوّر تلك التناقضات إلى مرحلة معينة»، بحسب ماو. تدخُّل روسيا عسكرياً في أوكرانيا كان الذريعة لاتّهامها بالمبادرة إلى العدوان، وبالتالي بالمسؤولية عن اندلاع الحرب، لكن أصحاب هذا الاتّهام يتناسون أن الانتشار والتحشيد من قِبل حلف عسكري كـ»الناتو» في جوارها، ونقْل أحدث المنظومات العسكرية إليه، يشكّل من منظور عسكري، مرحلة أولى من الحرب. لم يتوقّف المسؤولون الروس، منذ بداية الألفية الثانية، عن التحذير من مغبّة استمرار زحف «الناتو» التدريجي إلى الشرق، وصولاً إلى حدود بلادهم، لكن تحذيراتهم المتكرّرة لم تَجد آذاناً صاغية. لم يتردّد بوتين في الإقرار بأنه طلَب من الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، قبول عضوية بلاده في الحلف، خلال زيارة الأخير لموسكو عام 2000، آملاً أن ينهي ذلك تصنيفها على أنها قوّة معادية، لكنه لم يتلقّ أيّ إجابة منه. وعلى الرغم من أن عملية توسيع «الناتو» شرقاً واجهت نقداً حادّاً، ومبكراً، من قِبل شخصيات وازنة في الغرب، وفي مقدّمتهم، سنة 1998، جورج كينان، الذي صاغ استراتيجية الاحتواء في أواخر الأربعينيات، إلّا أن تلك الانتقادات لم يكن لها تأثير يُذكر. يشير البعض إلى أن المواقف داخل بلدان الحلف حيال روسيا لم تكن موحّدة، وأن ألمانيا وفرنسا مثلاً حرصتا على تطوير علاقات تعاون اقتصادي معها، وعلى التشاور المستمرّ مع قيادتها، وإطلاق التصريحات عن ضرورة إدماجها في «الأسرة الأوروبية»، لكن جميع المعطيات المذكورة لم تَمنع مشاركتهما، في أوكرانيا للمثال لا الحصر، في تجهيز وتدريب قوّاتها الخاصة منذ 2014، استعداداً لمواجهة قادمة مع جارتها الكبرى. اقترحت القيادة الروسية، في 2021، فكرة «تحييد أوكرانيا» وفق نموذج فنلندا خلال الحرب الباردة، وعلى قاعدة تعهّد رسمي بعدم انضمامها إلى حلف «الناتو»، وتمّ رفْض الاقتراح باسم «حق الدول في اختيار تحالفاتها». بكلام آخر، استنفدت روسيا جميع الوسائل السلمية للتوصّل إلى تسوية تمنع وصول «الناتو» إلى جوارها، واستكمال مخطّط تطويقها، ولم تنجح في هذه المهمّة، فلجأت إلى خيار القوة لحسم التناقض لمصلحتها.
إدارة بايدن مصمِّمة على المضيّ في الحرب
قد يكون من المبكر حتى الآن، بعد سنة على بداية مجابهة دولية في أوكرانيا يُرجّح أن تطول، ويُحتمل أن تتوسّع، الخروج بخلاصات نهائية حول مآلاتها، وتداعياتها الطويلة الأمد على المشهدَين الإقليمي والدولي. لكن الحذر الواجب تجاه الخلاصات المتسرّعة بالنسبة إلى معركة ما زالت جارية، لا يمنع من رؤية بعض الحقائق الخاصة بأفرقائها الرئيسيّين، أي التحالف الغربي بقيادة واشنطن من جهة، وموسكو من جهة أخرى. أولى هذه الحقائق هو خطأ تقدير النخب السياسية الأميركية المسيطرة، ودولتها العميقة، لقوّة روسيا الفعلية، وتصنيفها على أنها ليست لاعباً دولياً من الدرجة الأولى. تجلّى هذا الخطأ في اعتقاد تلك النخب بأن موسكو لن تتجرّأ على استخدام القوّة العسكرية لوقف تسلّل «الناتو» إلى جوارها المباشر. وحتى عندما فعلت ذلك، ظنّ الغربيون أن الحرب، إضافة إلى ترسانات العقوبات المشدّدة، ستُفضي إلى استنزافها سريعاً، وإضعافها في الميدان، وإلحاق هزيمة منكَرة بها، تنتهي إلى اندحارها، وربّما حتى إلى انهيار نظامها السياسي وتفكّكها. ما زال البعض في واشنطن يَعتقد أن وقْع الحرب في أوكرانيا على روسيا سيكون شبيهاً بوقع الحرب الأفغانية على الاتّحاد السوفياتي. الحقيقة الثانية هي أن إدارة بايدن مصمِّمة على المضيّ في الحرب، وهذا ما أعلنه أقطابها، بدءاً برئيسها في خطاباته في كييف ووارسو، ومروراً بحديث نائبته كامالا هاريس ووزير خارجيته أنتوني بلينكن عن ضرورة محاكمة القادة الروس باعتبارهم مجرمي حرب. تصنيف أيّ قادة سياسيين على أنهم مجرمو حرب، في الثقافة السياسية الغربية السائدة، يعني ببساطة أنهم، على غِرار القادة النازيين أو الصرب، ليسوا طرفاً يمكن التفاوض معه، لاعتبارات مبدئية وأخلاقية، وليس للاعتبارات السياسية وحدها. التفاوض ليس وارداً إذاً في المدى المنظور بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، والتوجّه هو لتصعيد المواجهة. قد تضطرّ الأخيرة إلى التراجع عن ذلك الموقف إذا فرضت حقائق الميدان أوّلاً وأساساً، وليس أيّ عوامل أخرى، عليها هكذا تراجع.
الحقيقة الثالثة هي أن واشنطن فشلت فشلاً ذريعاً في بناء جبهة عالمية ضدّ روسيا، خارج «قبيلتها» الغربية الموحّدة في إطار «الناتو»، ليتجلّى بوضوح انحسار هيمنتها على جميع دول جنوب العالم، وفي طليعتها تلك الصاعدة، كالهند وباكستان ودول الخليج وبلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية، إذا استثنينا الصين وايران المصنَّفتَين ضمن خانة أعداء الولايات المتحدة. التعبير المستخدَم حالياً لتوصيف الواقع الدولي الجديد في أوساط الخبراء الغربيين هو «العالم المتشظّي» أو «العالم المفكّك»، والمقصود طبعاً هو فقدان الغرب سيطرته على بقيّة العالم. أمّا الحقيقة الرابعة، والمتعلّقة بروسيا، فهي ترتبط بانتقالها من الضغوط المحدودة والتحذيرية للاستراتيجية الغربية المعادية، كالتدخل في جورجيا (2008) وفي أوكرانيا (2014)، مع ترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية التفاوض رغبة في صفقة كبرى تُعرض عليها، إلى الهجوم المضادّ بغية كسْر التطويق وإعادة النظر في الهندسة الأمنية المعادية لها، والتي تمّ تشييدها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وهي استندت، عندما اتّخذت قرارها ذاك، إلى السياق الدولي الجديد، أي وجود مواجهة استراتيجية بين الصين والولايات المتحدة على المستوى الدولي، وإلى المجابهة بين الثانية وإيران على المستوى الإقليمي. ربّما قد لا تصحّ مقارنة شراكات موسكو مع بكين وطهران بتحالف مندمج كـ»الناتو»، ولكن دينامية الصراعات المحتدمة بين كلّ منهم وواشنطن، ستدفع إلى تعزيز وتوثيق الشراكات المذكورة في إطار معارك حامية الوطيس مع الإمبراطورية المنحدرة. ولا شكّ في أن مفاعيل هذه المعارك الدائرة، والمرشّحة للاستعار، ستسرّع من عملية إعادة صياغة عالم ما بعد الغرب، الذي تتبدّى معالمه يوماً بعد يوم.