حديث الإنتخابات مع حفيدي فهد
حيّان سليم حيدر
مِن أصْدَق ما يمكن لك أن تشكر الخالق عليه، ومِن أمْتَع ما يمكن أن تقضيه من وقت وأنت تسلك طريقك بثبات إلى أرذل العمر… حوارٌ مع حفيد، أو حفيدة. الحمد لله على نعمته هذه.
وكانت الإنتخابات في عيد شهداء لبنان في 6 أيّار 2018م، ولا أعلم إذا ما كان التاريخ مقصودًا ليشير إلى شهداء لبنان الجُدُد… وأعني بهم الشعب اللبناني.
وكانت في الأشهر اللاحقة، كما العادة، زيارة صيفية للأحفاد. وكانت، ما أجملها مناسبات، جولات الجَدّ معهم في شوارع البلاد. ولأنّ الموضوع بات طبيعيًّا "بخصوصيّته" لنا، نحن المقيمين من اللبنانيين، ومنذ أجيال، إلّا أنّه لم يكن كذلك بالنسبة لحفيدي فهد، الأردني في ربيعه العاشر، المقيم في إمارة دبي.
في واجهة الجولة، وفي خلفيتها، أمامها وخلفها وعلى جانبيها، عبادة الجماهير لقادتها: صورٌ ولافتات، يافطات وشعارات، أعلام ورايات، بنْدَيْرات ومجسّمات… مُتدلية من على السطوح، مُشرْشَرة على طرفي الطرقات، مُبَعثرة على طول "الأوتوسترادات"، مشنوقة على عواميد المال العام، مُبَرْوَزة، مُنوَّرة في وضح النهار، مُغْرِبة في غموض الغسَق، مختفية في عتمة الليل، عملاقة على مدّ سبع طوابق على الطرف "الميِّت" للبنايات، مُتأرجحةٌ من على حبال عابرة لعرض الأزقّة، مُلصَقة على واجهات المحال، صورٌ مُشرئبّة في كلّ مكان، لمرشّحين من كلّ زمان. لا قواعد لقيامها، ولا لقعودها، لا أصول لرفعها، لا نظام لدفعها، بل عواقب لصفعها. لا أسس لشعاراتها، لا لغة، لا فكر، لا نهج، لا إلتزام… وكان أهلها قد قيل عنهم:
"…يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم …" (سورة آل عمران، 167)
صورٌ على أبواب المخاتير، على مفارق المُفارقات، تحت نظر المؤسّسات العامة، بل في دارها وفي مدارها، وعند "المُوْ..داريها"، على شرفات النوادي، في مدّ نظر القهاوي، على مشارف المهاوي…أصحابها يتضرّعون:
"سيحلفون بالله لكم إذا إنقلبتم إليهم…" (سورة التوبة، 95)
"يحلفون لكم لترضوا عنهم…" (سورة التوبة، 96).
صورٌ بيد مرفوعة مُهلّلة مُصافِحة مُتضرّعة مُتبرّعة، لا فرق.. وجوهٌ بمحيّا مبتسِم مُتجشّم مُعْتزّ خجول متأمِّل مُتألِّم، لا فرق.. لُبوسٌ بهندام مُتأنِّق مُتألِّق مُتملِّق مُسْتشلِق، لا فرق… وعلِّق يا فهد على كلّ تفصيل .. و"اسِتلِمْنا" !
"كلّنا… للوطن !" صورٌ بشعارات: يا شعب !.. لا يهمَّك. بيروت…لا يهمِّك !، وعندما لم يهمّه الشعب، ولمّا لم تهمّها بيروت (حيث لم تتجاوز نسبة الإقتراع 20%) إنهال أصحاب الصور، على الذين قالوا لهم ألّا يهمّهم، إنهالوا عليهم بأقذع الشتائم، وأتبعوها بوصفِهم بأقبح النعوت.
يا مدينة !.. أنتِ المُذنِبة، أنتِ المجرمة، أنتِ الخائنة، أنتِ المارِقة، لا "مش مارْقَة"…
وعندما لم يهتمّ الشعب (حسب توجيهاتهم) إنصبّوا غضبًا عليه: حاسبوا الشعب، كما قال برتولت بريخت، الحقّ على الشعب… غيّروا الشعب ! والشعب؟ كما قال الشاعر:
مشَيْنا في رعيّتهم خرافًا فساروا في رعايتنا ذئابا (1)
لا… لن أتورّط في تفسير كلّ هذا لفهد، فحقَّه ألّا يفهَمَهم وحقّه ألّا يتفهّمها، وحقّي أنا ألّا أتورّط في أن لا يفهمني.
أمّا العقاب، وأيّما عقاب؟ خلّوا (إذا لم نقل خلِّدوا) الصور واللافتات في أماكنها، بل ضاعفوها، بل زيّنوها بالعراضات الفخمة والعَرَضيات الضخمة لتبقى منوّرة على ظلمة قلب المواطن "المُقصّر".
وتغزل عيون فهد المتفاجئة، المتسائلة، ويتكسّر السؤال على السؤال ولا يجامل ولا يساوم… خَلصْنا… لم يعد بالإمكان السكوت عمّا كان، فيقول فهد لجَدّه، الذي لم يكن لينتبه حتى لِوجود كلّ هذا "الديكور" الإنتخابي، لازمة العيش "الوطني"، الذي إعتاد عليه، يسأل فهد باللغة الإنكليزية، لغته التلقائية في مدرسة الشويفات في دبي، يسأل: "من هُوَذا الذي دائمًا ما يَنْبُع في كلّ مكان ؟" (Who is this guy who keeps on popping up everywhere?)
سؤال لخّص به سخافتنا نحن اللبنانيّين… باقتضاب !..
كنت قد كتبت هذه المقدمة في صيف العام 2018 ولم أُكْمِلها لتقديري الخاطىء أنّ موجة الصور لا بدّ أنّها موسمية وستزول، مع أفول "نجوم" السياسة. وانتظرت عامًا بكامله ولم تفعل ولم يفعلوا. وفي صيف 2019 عاد الفرح مع عودة الأحفاد وعاد الهَرَج إلى جولاتنا وعاد الحَرَج إلى صولاتنا.
أنظر يا فهد. ها هم : واقفون جالسون جدّيّون مبتسمون عابسون، منفردون مجتمعون، متحازبون متجمهرون، مُهلّلون مُرحّبون مُوَدّعون. على الأكِفْ على الأرض على ضهور السيارات على ضهور الناس على ضهور … الشوار… مُقبلون مُدْبِرون معًا، المهمّ على ظهورٍ … دائم لا يملّ، لا يكلّ، لا ينتهي، بلا إحساس. وينتفض فهد من جديد: ما زالوا هنا ؟ لماذا هُمْ هنا أصلًا ؟ ماذا تفيد ومن يستفيد منها ؟ إلى ما لا نهاية من أسئلة عاقلة مُحقّة موجِعة موَبّخة مستنكرة مُدينة مُستفزّة. عندها قرّرت إكمال المقالة متشجّعًا بقرار الحكومة الحالية بمحاولتها إزالة الصور من "ذهن" اللبنانيين، هذا التقليد المتخلّف بالإعتزاز بالذات الصُوَرية.
"للعُلا… للعلم !" صورٌ صورٌ، صورٌ في كُنْهِ شوارعنا.
…ٌ سودٌ، زُرقٌ، صُفرٌ
رُمْدٌ، رُقْطٌ … كلُّ الألوانْ (2)
ويُكمل فهد الحبيب: لماذا العتمة في البيوت والمحال والإنارة على الصور والمعترضات، ولبرهة… خشيت أنّ يُسأل هو (قضائيًّا) عن تساؤله.
صورٌ رئاسية صورٌ وزارية ونيابية وبلدية، صورٌ لموظفين لمتموّلين لرجال أعمال، أعمال ماذا؟ منهم من قضى.. ومنهم من ينتظر.. ولم يبدّلوا صورَهم قط. وكلام عن " ما بتلبق لغيرك" .."الضمانة".. "الأمانة".. "جَبَل"، و"بالروح .. بالدمّ.." والناس حائرة، منتظرة في الساحة وهي تسأل: بِرُوحْ ولّا بِدَمْ؟
ويختلط المرشّح بالمطربة بالإعلانات بالدعايات التجارية بالنشاطات الإجتماعية بالمهرجانات السياحية والفنية ومعها .. التُرّهات ..دائمًا التفاهات. وهل أشرح لفهد معنى تُرّهات، وبأيّ لغة، أو ما زال الأمر "بكّير" عليه ؟
هنا يختلط عمل الخير بصورة شهيد بشعار لفقيد بمبدأ واهِم لبناء دولة. منهم ما هو حالي ومنها ما هي للذكر فقط بعد عقد أو عقدين أو إلى ما شاء الله. سياسة؟ وبأيّ لغة أشرح لفهد معنى بيت شعر جدّ والدته القائل:
" فقد جهل السياسة من يراها مراوغةً وأسلوبا كذابا " (1)
وتشابكت الشعارات المستطيرة شرًا، بالمستجيرة خيرًا، بالمستنيرة جَهْلًا ! وما كُتِبَ منها على أنّه تقدمة "ناسك" أو "اهلك" من دون تحريك، من دون تهميز، فحرّكها يا فهد، إن فهمتها، كما شئت وهمّزها كما يحلو لك ثمّ فسّر يا جدّو إذا أفلحت، ما أصعبه درس في أصول اللغة لشرح الفرق فيما بين الفاعل (صاحب الصورة) والمفعول به (الشعب) والفعل (ماضي ناقص)، كلّ حسب التحريك أو التهميز أو المَيْل السياسي.
واشرح يا جدّو عن حالاتهم ! وما معنى الترويج لثقافة الهزيمة ونشر العصبية وما هي الطائفية، وإنسى ذكر التبعية والزبائنية، اتركها إلى صيفيات قادمة.
صورٌ لِمَنْ مات ليحيا لبنان…صورٌ لِمَنْ أمات لبنان ليحيا هو ! منها ما تدّعي تقدمتها من شباب المنطقة ومنها ما قدّمها الحاج.. الباقي في الحيّ … يُرزق إن شاء الله. تعال يا فهد، تعال نذهب لنشاهد هذه "الزعامات" "تتفَوْشَر" على الطرقات (تَفَوْشَر من فوشار، من فقعات حبّة الذرة pop corn، وهي ترجمة لكلمة popping up في سؤاله الأول). وكلامهم؟ أيّ كلام، كلام لا يمتّ بصلة بمنطق الجَدّ الأكبر القائل:
والقوا الكلام صُراحًا في مطالبكم
لا يحجب الظلمَ تنميق العبارات! (3)
هذا كان في بيروت، أمّا في جولاتنا في لبنان، فكلّ منطقة لها "خصوصيّتها"، والعارضات أوسع، والإنارات أسطع، والزعامات أفظع. كلّ شعار له "حساسيّته"، وأكيد لن أتجرّأ من ذكر "الصيغة" الفريدة ولن أحاول تدريس فهد قواعد "الميثاقية"، هذا الإختراع اللبناني العجيب: المشكلة لكلّ حلّ.
وشرحت لفهد ما أمكن شرحه مستعينًا بفنون المنطق، بأصول البيان كيف يستوي الخير والشرّ في كلّ قول، في كلّ إنسان، وبذلت جهدي لأقنعه أنّ أهل الجنّة هم الفائزون. وساير فهد جَدّه غير مقتنع بالأسباب الموجبة المقدمة لا بل غير فاهم لكلّ هذا المنطق الأعوج، والباقي.. شرحه بكلامه الغزير، المهضوم، بعيون "تحكي"، برقصة نظراته الثاقبة، بإيماآت وجهه الجميل، بسلاح الإشارات في يديه الصغيرتين الراسمتين لفضاء إفتراضي. وتركت الباقي على عاتق فنّ الحوار الإقناعي لوالدته رِوى، المُجازة في فنون التواصل (Communications Art)علّها تنجح حيث فشلت أنا في الدفاع عن (شوفة) حال بلدها الزري القيادة.
وأنا إذ أختم هذه السطور أتساءل إذا ما كانت الستّ كورونا التي حسنًا فعلت وحجبت الناس بعيدًا عن تلك المشاهد المُتخلّفة، هل ستسمح لنا كورونا بجولات صيفية جديدة مع الأحفاد، مع وليد وفهد ونينا ونورا وتاليا وسيف وفيصل؟ عُدْ يا جدّو، عُدْ يا فهد لنمرح في شوارع الدنيا، ها هو "البطل" ما زال يطلّ على كلّ ساحة. ها أنا أحلفُ ألّا أتذمّر من هذه الشوائب، فلتكن الصور البغيضة، ولتكن الكتابات المُغرضة، رُبَّ إزعاج ثمنه متعة حوار مع الحفيد، رُبَّ تخريب في الجِدّ يشفي غليل الجَدّ (4). وللذين تعبوا من السياسة، بمعناها البشع، أقول: إلجأوا إلى الطفولة: شيّالة الهمّ. "أبدًا… لبنان !"
سودٌ، شُهبٌ، زُرقٌ، صُفرٌ
رُمْدٌ، رُقْطٌ… ولها ذنبُ!.. (2)
صورٌ في كُنْهِ شوارعنا !..
بيروت، في 3 حزيران 2020م. حيّان سليم حيدر.
صور كلامية من دون سابق تصوّر.
______________________________________
(1) سليم حيدر – قصيدة وديوان "مهرجان العدالة" 1946 – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016.
(2) سليم حيدر- قصيدة "قطط في كنه سرائرنا" 1972 – ديوان "ألوان" – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016..
(3) سليم حيدر – قصيدة "ديباجة" 1946 – ديوان "ألحان" – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. -2016.
(4) عادة ما يكون تسلسل مقالاتي هادفًا ليتماشى مع مضمونها الذي يتقصّد الإشارة إلى تطوّر الأحداث، وفي هذا السياق، كان على حواري مع حفيدي فهد أن يأتي في خضمّ الصيف مع العجقة والصخب وال…، إلّا.. إعذروني على عجلتي وقد طغى الشوق وطال الفراق.