رأي

حدود المأجورين السياسيين وإرث الولاءات المشوّهة (أسامة مشيمش)

 

بقلم: الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

لقد آن الأوان أن يلتزم كل المحللين السياسيين المأجورين حدّهم، وأن يدركوا أن المجتمع لم يعد بحاجة إلى تضليلهم أو إعادة تدوير خطابهم المبتور عن الواقع. فمن لم يكن منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر؛ فهذه قاعدة أخلاقية وسياسية ينبغي أن تُستعاد في زمن شهد تراكمًا غير مسبوق من النفاق السياسي والخيانة الفكرية.

في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة جديدة، لكنها متجذرة في أعماق التاريخ السياسي اللبناني:

 شخصيات كانت محسوبة على محور المقاومة والممانعة، وها هي اليوم تتبرأ من كل ما ارتبط به اسمها في الماضي، لتبدأ بالتنظير والتطبيل لفترة ما بعد المقاومة، وكأنها تحاول محو كل أثر لمواقفها السابقة. هذه التحولات لا تتم في فراغ، بل هي جزء من ثقافة سياسية عميقة التوغل في مفاصل الدولة والمجتمع، وهي ثقافة تعلي من قيمة الولاءات المشوهة، وتقلل من شأن الإخلاص للوطن والمبدأ.

من بين كل التيارات والفئات والأحزاب اللبنانية، كان دائمًا يوجد “أبو عمر” التاريخي: شخصية تمثل التجربة السياسية المعقدة والمثقلة بالازدواجية. تجارب السياسيين مع “أبو عمر” أثبتت فعاليتها وتأثيرها، فهي السر الأعظم لبقاء واستمرار هذه النماذج في المشهد السياسي، على الرغم من تقلبات الزمن والحروب والصراعات.

تاريخيًا، خلال الحرب العالمية الثانية، كان السياسيون اللبنانيون يقدمون الولاء والطاعة لحكومة فيشي، ويبلغون بأخصامهم بأنهم تابعون لجماعة ديغول، متجاهلين الحقيقة. وللمصادفة، كان الضابط الفرنسي المفوض بمتابعة شؤون لبنان وسوريا متعاونًا مع ديغول سرًا، وكان يتلقى تقارير متناقضة: تقارير من السياسيين الموالين لفيشي عن خصومهم، وتقارير عن خصومهم الموالين لديغول، وهو ما أوجد حالة من التلاعب بالمعلومات، ساهمت في استمرار هذه الثقافة السياسية المشوهة.

هذه الظاهرة لم تتوقف عند زمن محدد، بل استمرت مع كل دولة أصبح لها نفوذ في لبنان. إذ يمكن القول إن ولاءات بعض السياسيين كانت دائمًا مرهونة بالمصلحة الشخصية أو بالحماية الخارجية، وليس بالمبادئ الوطنية أو الأخلاقية. ومع ذلك، من الإنصاف الإشارة إلى أن هذا لا يشمل الجميع، فلكل قاعدة استثناء، والاستثناء هو الذي يثبت القاعدة. هناك سياسيون أخلصوا للوطن، وقدموا الولاء الحقيقي لشعبهم، وكانوا مثالاً للإخلاص والمصداقية.

في المقابل، الاستثناء الآخر هو العمالة والخيانة: أولئك الذين باعوا المواقف والمبادئ، وتبنوا الولاءات المزدوجة من أجل مصالحهم الشخصية. هذه الظاهرة أثرت بشكل كبير على مسار الدولة اللبنانية، وعلى ثقة المواطنين في النخب السياسية، وجعلت من الصعب بناء ثقافة سياسية قائمة على المصداقية والشفافية.

من هذا المنطلق، يجب أن يكون معيار التقييم السياسي للأفراد واضحًا: الولاء للوطن والمصلحة العامة فوق أي اعتبار آخر، والخيانة أو المصلحة الشخصية يجب أن تكون مستنكرة ومحاسبة، بلا تردد أو تأجيل. إن التعاطي مع هذه الظواهر يتطلب وعيًا تاريخيًا وسياسيًا، وفهمًا دقيقًا للتجارب السابقة، حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها في أجيال لاحقة.

إننا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نتمسك بمبدأ الإخلاص والولاء للوطن، ونعلي من قيمة العمل الوطني الصادق، أو نسمح للاستثناءات المأجورة أن تتحول إلى قاعدة، فتسود ثقافة سياسية قائمة على المصلحة الشخصية والعمالة الخارجية. وهذا يضع مسؤولية كبيرة على النخب السياسية، وعلى المواطن اللبناني أيضًا، ليكون رقيبًا وواعيًا ومدركًا لتاريخ بلده وتجاربه السياسية.

وفي الختام، أطلب من الله أن يجعل القاعدة في لبنان الإخلاص والولاء للوطن، وأن يكون الاستثناء هو العمالة والخيانة، لا العكس. فالأمة التي تحترم وطنها وتقدّر مبادئها هي الأمة التي تبني مستقبلها، وتستعيد ثقة شعبها، وتضمن استمرارية القيم التي قامت عليها.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى