حاكم البنك المركزي:أبوه من أركان الشهابية..وأمه “ست الستات” الجبيلية

إعداد واصف عواضة – خاص الحوارنيوز

هل كان كافيا لمعظم اللبنانيين التعريف بحاكم البنك المركزي الجديد للبنان كريم سعيد، أنه شقيق النائب السابق فارس سعيد الذي يختلف اللبنانيون على قراءة وتوصيف مواقفه ومقارباته السياسية بين مؤيد ومعارض ومدين؟
ربما لأن كريم سعيد عاش جُلّ حياته خارج لبنان ولم يعرفه اللبنانيون عن قرب، فإن قلة من اللبنانيين هي التي وقفت أمام تاريخ العائلة الجبيلية العريقة التي ينتمي إليها حاكم مصرف لبنان الجديد .
فوالده الذي رحل باكرا أنطوان فارس سعيد، كان نائبا عن قضاء جبيل ،وركنا من أركان الشهابية، ومنافسا للزعيم الجبيلي العميد ريمون إدة ،وطبيبا جراحا عرفه اللبنانيون بإنسانيته وخدماته للناس.أما والدته فهي السيدة نهاد بطرس جرمانوس (الشهيرة بنهاد سعيد) إبنة العاقورة الجبيلية ،وقد شغلت المقعد النيابي عن جبيل أيضا،وكانت امرأة قوية حفظت تراث زوجها حتى لُقبت ب “ست الستات”.

وكان لافتا إستدعاء كريم سعيد إلى جلسة مجلس الوزراء وإجراء “فحص وامتحان” له على مدى ساعة، لشخصه ومواقفه ورؤيته وتطلعاته ،ما يدلل على أن غالبية الوزراء لا يعرفونه جيدا.
وفي كل الأحوال قد يكون أمرا طبيعيا مثل هذا الجدل حول حاكم البنك المركزي الذي يتمتع بصلاحيات واسعة ،وتبعا للتجربة السابقة التي أودت بالحاكم السابق رياض سلامة إلى السجن مع أفراد من عائلته .وربما كان الرئيس نبيه بري في “قمة الظرافة” عندما نبّه فارس سعيد إلى أن رياض سلامة أدخل شقيقه قبله إلى السجن.
أنطوان سعيد

وقبل الحديث عن الحاكم الجديد ،ينبغي التوقف أما تاريخ العائلة ،أباً وأماً وأبناء.

فالوالد أنطون فارس سعيد طبيب القلب الانساني الذي رحل باكراً(1925-1965) كان ركنًا من أركان النهج الشهابيّ في وجه عدوين لدودين لتحديث لبنان: الإقطاع والسرقة. كما كان بحقّ رجل دولة في وجه بعض الزعامات التي أثبت التاريخ بعد سنوات قليلة من رحيله أنّها عادت بالويل على لبنان.
والده فارس سعيد كان طبيبا تخرج من الجامعة اليسوعية سنة 1906. شارك في الحرب العالمية الاولى من باب مهنته، فإنخرط في الجيش التركي حيث خدم في فلسطين. عاد الى لبنان سنة 1917، وعيّن في ظل الانتداب الفرنسي “طبيب قضاء” في جبيل، فسكن قرطبا ومارس مهنته.
وعلى طريق الاب فارس، سار الابن انطون. فدرس الطب وتخرج عام 1951 ثم تخصص في الجراحة العامة، وأنشأ مستشفى “سانت أنطوان” بالقرب من المتحف في بيروت في نهاية 1956 ولا تزال الى اليوم.

إشتهر الطبيب انطون سعيد في احداث 1958 حيث عالج الكثير من جرحى الاحداث في الشوف وبيروت. وفتح مجيء فؤاد شهاب الى سدة الرئاسة عام 1958 المجال لإنخراط انطوان الشاب في الحياة العامة في ظل المناخ السياسي الذي ارساه شهاب آنذاك المرتكز على تجديد النخب السياسية في البلاد.
إنضم أنطوان سعيد الى “نادي 22 تشرين” الذي كان ناديا ثقافيًّا وسياسيا تأسس بتوجيه من رئيس الجمهورية. وخاض انطون الشهابي الانتماء الانتخابات النيابية عام 1960 في قضاء جبيل منفردا، لا في عداد “اللائحة الدستورية” التي ضمت شهيد الخوري والد النائب السابق ناظم الخوري وادوار نون واحمد الحسيني، وتنافست مع “لائحة الكتلة الوطنية” بزعامة ريمون اده وغبريال جرمانوس واحمد اسبر محققة الفوز على الدستوريين.

في انتخابات العام 1964، وصل الى البرلمان على “اللائحة الدستورية” التي ضمته وشهيد الخوري وعلي الحسيني. في تلك الانتخابات سقط ريمون اده ومرشحا لائحته اميل روحانا صقر واحمد اسبر. سقط ريمون اده بفارق 213 صوتا عن انطوان سعيد. حصل اده على 9490 صوتا وسعيد على 9703 الذي حل ثانيا في اللائحة بعد شهيد الخوري . قيل يومها ان المكتب الثاني كان فاعلا على الارض وإتهمت السلطة بالتدخل المباشر في الانتخابات واسقاط اده.
لم تمضِ سنة حتى توفي أنطوان سعيد في 15 أيار 1965 بنوبة قلبية مفاجئة بعمر 40 سنة، وكان على وشك تعيينه وزيراً للصحة العامة.. كان شارل حلو قد انتُخِب رئيسا للجمهورية بعد ان خيّب الرئيس شهاب الآمال في التجديد. كانت زوجته نهاد جرمانوس سعيد في الثانية والثلاثين من عمرها، فخاضت الإنتخابات الفرعية في وجه ريمون اده، وشهد القضاء معركة تاريخيّة طاحنة بينها وبين العميد إده، بعدما رفض عرضاَ من كمال جنبلاط بترك المقعد لأرملة النائب سعيد، ورفضت هي عرضاً من البطريرك بولس المعوشي بالتراجع والتفرغ لرعاية عائلتها الكبيرة، وكانت شابة بعمر 32 سنة وأماً لستة أولاد.. وكانت نهاد سعيد عمليا اول امرأة تخوض معركة انتخابية فعلية، اذ ان ميرنا البستاني شغلت بالتزكية مقعد والدها النائب إميل البستاني في العام 1963. وخسرت نهاد سعيد امام ريمون اده، فحصد اده 10476 صوتا فيما نالت سعيد 9544 صوتا. وارتفعت أصوات تتحدث عن تزوير أو ضغوط لمصلحته مارسها جهاز الأمن العام واستدعت استقالة حكومة الحاج حسين العويني.
كان انطوان كثير الانشغالات بين السياسة ومهنة الطب، حتّى قبل الصباح الباكر كان الناس من ضيعته يفترشون الارض في الصالون وغرفة الطعام، اذ كانوا يأتون من قرطبا الى بيروت لرؤية مرضى لهم في المستشفى او لقضاء حاجياتهم، فينامون في منزل سعيد. وكانت صيدليته المتنقّلة تصل الى عمق خمسين كيلومترا حتى جبال قرطبا والجوار.
ولطالما عرف عنه وعن زوجته لاحقا، العمل الدائم على حماية العيش الواحد، المسيحي الشيعي في المنطقة، جامعين ممثلي الأحزاب والعائلات والقرى على تركها في منأى عن نار المواجهات الطائفية التي أشعلت كل البلاد. وكان العميد ريمون إده يشكو عند كل استحقاق نيابي أن غالبية أصوات الشيعة في القضاء تصُبّ عند خصومه المحليين آل سعَيد.
نهاد سعيد

الوالدة نهاد بطرس جرمانوس سعيد ولدت في العاقورة عام 1932. نالت شهادة البكالوريا القسم الثاني في العام 1950، وكانت الأولى في لبنان ثم التحقت بكلية القانون في الجامعة اليسوعية.
تزوجت من الدكتور أنطون فارس سعيد من قرطبا في العام 1953، ورزقت منه بـ 6 أولاد: النائب السابق الدكتور فارس سعيد، المحامي كريم سعيد، ماري كلود، مايا، ندى وأدلين.
أسست مع زوجها مستشفى سانت أنطوان في العام 1957، وكانت دائما الداعم الأقوى إلى جانبه عندما فاز بالإنتخابات النيابية في العام 1964 عن المقعد الماروني في بلاد جبيل. وقد ساهمت في العام 1992 في إنجاح مقاطعة الإنتخابات النيابية التي دعت إليها الكنيسة المارونية، وفازت في العام 1996 في الإنتخابات النيابية في بلاد جبيل.
كسبت لقب “ست الستات” نظراً لمحبتها وتواصلها الدائم مع الناس الذين بادلوها بالمثل، فجمعت بين صلابة العاقورة، والمياه العذبة في قرطبا. وباتت مرجعاً سياسياً وإجتماعياً بإمتياز في كل قرية من بلاد جبيل دون إستثناء.
آمنت بالعيش المشترك الإسلامي- المسيحي وبلبنان البلد الواحد والموحد، ساهمت في الحفاظ على إستقرار بلاد جبيل خلال مرحلة الحرب الأهلية.
كريم سعيد

في ظل هذه العائلة ولد كريم سعيد في قرطبا عام 1964 ،وأصبح شخصية مالية وحقوقية لبنانية بارزة. حصل على شهادة في القانون من جامعة القديس يوسف في بيروت، ثم نال ماجستير في القانون من جامعة هارفارد، حيث ركّز في دراسته على قانون البنوك وأعدّ أطروحة حول “قانون جلاس- ستيجال لعام 1933” .
يتمتع سعيد بخبرة واسعة في اللوائح المصرفية، تشمل الأطر التنظيمية في كل من الولايات المتحدة ولبنان. وهو عضو في نقابة المحامين في ولاية نيويورك منذ عام 1989، وعمل كمحامٍ مبتدئ في نيويورك بين عامي 1989 و1995 في مكاتب متخصصة في الأوراق المالية والمعاملات المصرفية والتمويل المؤسسي .
شغل كريم سعيد منصب المدير العام للخدمات المصرفية الاستثمارية في بنك “أتش أس بي سي” (HSBC) في الشرق الأوسط بين مايو 2000 ومايو 2006. في أواخر عام 2006، أسس شركة “غروث غايت إيكويتي بارتنرز” (Growthgate Equity Partners) في الإمارات العربية المتحدة، وهي شركة لإدارة الأصول البديلة تستثمر في الشركات الخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا .
يرتبط اسم كريم سعيد بما يُعرف بـ”خطة هارفارد” لحل الأزمة الاقتصادية في لبنان، التي مولتها شركة “غروث غايت كابيتال” (Growthgate Capital)، حيث شغل منصب مؤسس وشريك إداري .
بالإضافة إلى ذلك، عمل سعيد مع وزارات المالية والمصارف المركزية في دول عربية عدة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، قطر، عُمان، الكويت، البحرين، والأردن، حيث لعب دورًا محوريًا في هيكلة وإدارة الإصدار العام وبيع الأوراق المالية للكيانات المخصخصة .
تعيين بالتصويت
تمّ تعيين سعيد بالتصويت حاكمًا لمصرف لبنان يوم الخميس في 27 آذار 2025، خلال جلسة لمجلس الوزراء في القصر الجمهوري وقد حصل على 17 صوتًا من أصل 24 صوتا في مجلس الوزراء.وكان البارز معارضة رئيس الحكومة نواف سلام مع ستة من الوزراء لهذا التعيين.

وكان لافتا تحفظ ومعارضة الرئيس سلام تعيين سعيد ،وهي المرة الأولى في تاريخ لبنان التي يعارض فيها رئيس حكومة تعيين إسم معين لحاكمية مصرف لبنان .وسيترك هذا الواقع فرصة واسعة للتحليل والإجتهاد في الأوساط السياسية والمصرفية والإعلامية عن الأسباب الحقيقية لذلك ،ويخشى أن يترك جرحا داخل الحكومة التي خرج سبعة أعضاء منها بينهم رئيسها، عن الإجماع الذي يسود في الغالب قرارات مجلس الوزراء.


