جورج قرم .. “الفرصة الضائعة” فعلا! (حسن علوش)
حسن علوش – الحوارنيوز – خاص
شكلت الحكومة الأولى في عهد الرئيس إميل لحود برئاسة الرئيس سليم الحص، علامة فارقة في تاريخ الحكومات اللبنانية لعدة أسباب:
أولاً: لتكوّنها من عدة شخصيات مشهود لها بكفاءات استثنائية وفي طليعتها الراحل جورج قرم.
ثانياً: لوضوح رؤيتها حيال سبل الخروج من الأزمات المتراكمة، لاسيما منها الأزمة الاقتصادية ومعضلة المديونية العامة، وإصرارها على ولوج أبواب الحلول من دون تردد.
ثالثاً: لنظافة كفّ رئيسها “ضمير لبنان” الآدمي سليم الحص وغالبية الأعضاء، ما حوّلها الى فرصة نادرة للإنقاذ الوطني.
رابعاً: لوجود الرئيس لحود الحريص على إنفاذ الدستور والقوانين المرعية وتفعيل الهيئات الرقابية وإعادة الاعتبار للإدارة اللبنانية وهيبتها وإرساء مبدأ الثواب والعقاب وتقييم الأداء.
حكومة الحص 1998، ليست كما قبلها وليست كما بعدها! إنها الفرصة النادرة التي كشف الكثير من جوانبها الراحل جورج قرم في كتابه “الفرصة الضائعة”.
لقد تحسس من كانوا في السلطة، وهم هم، منذ اقرار اتفاق الطائف العام 1989 ولتاريخه، تحسسوا حجم المخاطر وخطر افتضاح السياسات والتشريعات المالية والنقدية التي أقروها وإنغماسهم في ملفات الفساد السياسي والإداري والمالي، فبادروا فور نيل الحكومة الثقة لمحاصرتها داخلياً وخارجياً.
طرقوا أبواب حلفائهم في منظومة الفساد المشتركة داخل النظام السوري، فكان جواب الرئاسة السورية آنذاك: وقف الخطوط والممرات العسكرية “. ومنذ هذه اللحظة سيكون التعامل مع لبنان من دولة الى دولة”. استشاطوا غضباً ومضوا في تحريضهم نحو “الغرب” وما أمكنهم من دول عربية استجاب غالبيتها لطلبهم لأسباب سياسية واقليمية!
كان هدف حركتهم اسقاط الحكومة بمهدها. حركوا في سبيل ذلك شوارعهم وأحزابهم المذهبية ومؤسساتهم الاعلامية المذهبية. اتحد الطاقم السياسي الحاكم بموالاته ومعارضيه، اتحدوا كأحزاب للنظام الطائفي، دفاعاً عن غنائمهم وحصصهم من “البقرة الحلوب”.
قد يختلف البعض حيال تقييم تلك المرحلة، لكن أحداً لا ينكر الجهد الكبير الذي بذلته الحكومة وبذله بالتحديد الموسوعي جورج قرم لضبط المالية العامة، بما يعزز فرص استعادة البلاد لعافيتها وتؤسس لنمو حقيقي لا وهمي، وتجنيبها مخاطر الإفلاس.
عمل الراحل، وهو صاحب الخبرة العميقة في تصحيح الأضاع المالية لعدد من الدول العربية، عمل فور تسلمه مسؤولياته على تغيير كلي في استراتجيات الفكر الاقتصادي، بدءا بوضع هوية جديدة للإقتصاد اللبناني بعد “فشل الهوية الاقتصادية للبنان بتحويله إلى مركز تسوق رغم كل ما لديه من موارد بشرية ومائية وزراعية”.
كشف مكامن الضعف في بنية الاقتصاد وأظهر بكل علمية وشفافية كيف تحول الاقتصاد اللبناني “من إقتصاد ريعي ذي آداء عال نسبياً قبل الحرب (الحرب الأهلية 1975 – 1989) إلى إقتصاد تبذيري محض، في حين أن مقومات الريوع التي كانت قبل الحرب، قد زالت بفعل التطورات العملاقة الحاصلة في المحيط العربي والعالمي في السنوات الأربعين الأخيرة، حيث فقد لبنان تقدمه النسبي وميزاته بالنسبة إلى محيطه”.
من أولوياته كانت معالجة “أزمة الاقتصاد وأزمة الانتاجية والقدرة التنافسية. ومن دون معالجة الخلل المالي الذي يصيب البلاد بشكل عام، لا يمكن العودة الى حالة إنتاجية؛ وبالتالي، إلى معدلات نمو عالية”.
وخلافاً للحملات المغرضة والتشويه المتعمد لأداء الحكومة ووزارة المالية فإن حكومة الرئيس الحص، قد رصدت المتأخرات المتراكمة المستحقة للقطاع الخاص وسددتها بعد أن كانت الحكومات السابقة تمتنع عن ذلك إلا للمحظوظين!
اتهمت حكومة الحص بأنها أجهضت النمو بالتقشف. والحقيقة بيّنها قرم في كتابه “الفرصة الضائعة”: “فالأرقام والبيانات المالية تدلان، بشكل واضح، على أننا لم نقم بالتقشف الكافي. ففي العام 1999، وضعت الدولة في التداول أكثر من 1000 مليار، زيادة على العام 1098: 600 مليار عبر الموازنة و500 مليار عبر تسديد الدولة للمتأخرات تجاه القطاع الخاص، بواسطة سندات خزينة تم تسييلها لدى القطاع المصرفي. وفي العام 2000 وضعنا بالتداول 600 مليار ليرة، خلال الأشهر الأربعة الأولى من السنة، زيادة على ما تم انفاقه في الفترة نفسها من العام الماضي”.
في حركة التصحيح المالي، سعى قرم إلى إطلاق شعار الحرب ضد المديونية؛ وكتب في مؤلفه: ” البلاد ما يزال فيها من يرفض أن يستوعب، أو أن يدخل في وعيه، مدى خطورة المستوى العالي من الدين العام. وأنا أرى أن التصرفات التبذيرية، وعادة إقرار الإنفاق بسهولة، لا تتفقان مع الاستنفار الذي يجب أن يعمّ المجتمع لشن حرب كبيرة ضدالمديونية، لأننا، إذا لم نتغلب في نهاية الأمر على المديونية، فلا مستقبل إقتصادياً لهذا البلد. والحرب على المديونية، هي، في الوقت نفسه، حرب ضد التبذير”.
وبناء على هذه الرؤية فقد وضع خطة خمسية للتصحيح المالي قامت على ركيزتين:
- تحديث النظام الضريبي (العدل والاعتدال والمواطنية الضريبية) . وقد حققت الاجراءات التي اتخذت لجهة التخفيف من العبء الضريبي عن الفئات المحدودة الدخل وحصر الغرامات العشوائية، بعض النتائج الايجابية دون أن تستكمل بسبب انتهاء ولاية الحكومة.
- الخصخصة والاصلاح الإداري، لاسيما أن خصخصة قطاعي الكهرباء والاتصالات تقلص فاتورة المواطن وترفع من مستوى الخدمات وضمن معايير دقيقة وقانونية وشفافة.
- وقف سياسة التبذير وضبط النفقات
لقد استشرف باكرا خطورة المديونية على الاقتصاد وسلامة العملة الوطنية، ولطالما ذكر بخطورة تكرار سيناريو ما افتعل العام 1992…
سنتان كانتا تمكن خلالهما من وضع أطر قانونية جديدة ومشاريع قوانين تأسيسية لإعادة بناء دولة المواطنة والعدالة الإنمائية، لكن حجم التحريض وتعاضد أحزاب ومافيات الفساد تمكنوا من إجهاض كل ما بذل، فربحت “الاحزاب الإنعزالية بالإقتصاد ما خسرته في السياسة”.
والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها في لحظة وداعك المؤلم: إن الأحزاب الإنعزالية التي تمكنت من خلال مراجع روحية تجميد الإصلاحات الدستورية التي نص عليها اتفاق الطائف، ها هي تنتصر اليوم سياسيا أيضاً بعد أن حفرت عميقاً تحت هذا “الاتفاق” ،فيما أصحاب المصلحة ببناء الدولة كانوا يتلذذون بمقايضة بين ترحيل مشروع بناء الدولة (مطلب سيد بكركي آنذاك) لمصلحة تمرير مشاريع انطوت على كم من الفسادين المالي والإداري.