بقلم د.عبد المجيد زراقط
وأخيرًا ، اختار جمال حجازي (١٩٥٦ ) مجموعة من نصوصه، وأصدرها في كتاب : ” غصون الأيام ونصوص أخرى ” ، الصادر مؤخراً عن دار البيان العربي .
بدأ جمال حجازي الكتابة منذ أن كان فتىً ، وما زال يواصلها ، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا بعض ثمارها.
جمال عبد الحسن حجازي، ابن بلدة عيثرون الحدودية، تلقى تعليمه ما قبل الجامعي، في المدارس الرسمية، متنقِّلًا ، بسبب اعتداءات العدو الإسرائيلي والتهجير، بين عدة مدارس. انتسب إلى الجامعة اللبنانية، ونال منها إجازة في الجغرافيا.
عمل في التدريس الرسمي، وفي الصحافة السياسية والثقافية، وكتب تحقيقات عن الجنوب اللبناني، ونصوص أدب الأطفال.
في هذا المسار من العمل ، كان ينشط ثقافيًّاً، ومنذ سنوات، أسهم في تأسيس المنتدى الأدبي للعلوم والثقافة، وتولّى أمانة سره. وهو، الآن، يواصل الكتابة والنشاط الثقافي، وقد صار لديه مزيد من الوقت، بعد أن أحيل إلى التقاعد.
النصوص التي يتضمَّنها هذا الكتاب تنتمي إلى ما يمكن تسميته “الكتابات الجديدة”، ونعني بها ما يكتبه الشباب والشابات، في هذه الأيام، في غير قطر عربي، من كتابات متحرِّرة من الوزن والقافية، سواء في ذلك وزن نظام الشطرين أم وزن التفعيلة.
يسمِّي بعض النقَّاد والكتَّاب هذه الكتابات قصائد نثر. والحكم، في هذا الشأن، يحتاج إلى دراسات تتبيَّن خصائص هذه النصوص النوعية، لتميِّزها، وتحدِّد نوعها، وقد نكون إزاء نوع أدبي جديد متميِّز من الأنواع الأدبية المعروفة، وليس بالضرورة أن يكون قصيدة النثر، لأن هذا النوع الأدبي، يعني النص الأدبي الذي يُقصد إلى إحكام بنائه، ويدل على ذلك معنى القصيدة، فهي فعيلة، أي صيغة مبالغة من قصد، فيكون ذا وحدة عضوية، ويمثل تجربة حياة كاملة…
تتصف نصوص هذه المجموعة بخصائص كثيرة، منها قِصر النص، وهو قِصر تمليه تجربة العيش في هذه الأيام، وبمعجم لغوي مأخوذ من لغة الحياة اليومية، وبقِصر العبارة وبساطة تركيبها، فتبدو كأنها عبارة كلام التداول اليومي بين الناس، وبوفرة الانزياح على المستويين: التركيبي والمجازي/ البلاغي، وهذا المجاز يتمثّل صورًا مبتكرةً تشعُّ بالدلالات، فتجسِّد الرؤية إلى العالم.
فلو قرأنا بعض العناوين، لتبيَّن لنا ذلك، فعلى سبيل المثال، نقرأ: “حبرك الرشيد”، ففي هذه الصورة ما يمكن تسميته “تراسل المعطيات”. تجسد هذه الصورة الشعرية الكتابة الرائية الكاشفة الدّالة. ونقرأ، في مثال آخر: “غصون الأيام”، ففي هذه الصورة الشعرية التي تتراسل فيها المعطيات كذلك، تبدو الأيام شجرة، والأحداث/ الإنجازات/ تجارب العيش غصونها، وهذه يتمثَّلها الأديب، ويمثِّلها نصوصًا.
ومن نماذج الصور الشعرية المبتكرة المشعَّة بالدلالات نذكر، في أمثلة أخرى: “ثدي الغمام”، فتتجسَّد أمامنا صور الولادة والأمومة والطفولة والحنان…، و”ضوء العتمة”، فتتمثّل أمامنا ثنائية التضاد والعلاقة القائمة بين طرفيها، و”ملاعب الخراب”، الممثِّلة للواقع المعيش، الذي حوَّله الفاسدون إلى ما تدل عليه هذه الصورة…
الأمثلة كثيرة، في العناوين والمتن، وحسبنا أن أشرنا إلى بعضها، لنرى أنَّ هذه النصوص تتّصف بما يسمِّيه النقاد والشعراء جوهر الشعر، وهو الصورة الشعرية التي تُحدث، لدى تلقيها “الهزَّة الجمالية”، وهي شعور تولِّده لغة الأدب العليا.
الإحساس بهذا الشعور يُسمَّى المتعة الجمالية، التي يتمّ التلقي في فضائها.
في هذا الفضاء يتلقّى قارئ هذه المجموعة رؤى إلى كثير من القضايا، منها: الشعر، فهو “لغة يمطرها قمر”، وهو “لغة صفاء الروح”. وفقد الأحبة، فالأب “هلال غاب…، ومات من تعب النُّبل…، وبكته الفضائل…”، والأخ تكوَّنت من قصائده “سنابلك الخضراء…”، وكان الصبح غاضبًا عند وفاته…، وهذا رثاء مختلف يجعل الأخلاق والكتابة والطبيعة شريكة في الفقد.
و من الموضوعات ، اضافة الى ماسبق ، فقد الوطن فلسطين والفقد في الوطن لبنان، والنشيد للقدس درَّة المدائن، والغناء لعيثرون، فيسمِّيها “عيطرون”، أي عين العطر، وهو يعود إلى دلالة اسمها، فهي “عين يثرون”، ويثرون هو النبي شعيب، ويعني صاحب الفضائل، المنتشرة كالعطر، والتعب العاملي، وأماكن إنجازات هذا الجبل ومقاومته، وخصوصًا مقاومة العدو الإسرائيلي، بقيادة سيد الوعد وقائد الانتصارين، فيمتطي فرسان المقاومة “صهوة النصر”، ويغدو النصر جوادًا من جيادهم. والوطن الجميل البهي الذي أحاله فاسدوه إلى “ملاعب الخراب”. وتظهر فظاعة هذا الخراب عندما يتمثّل جمال “هذي بلادي” في نصوص كثيرة، تريك البلاد قطعة من جنان، يتناجى فيها العشاق، ويشاركون الطيور أغاريدهم…
لكن يبقى الأديب، وهو يرى “الخراب”، يبحث عن الفضاء الجميل الذي فُقد، فيهتف: “أريد مكانًا، لأحيا…”، ويردّد المتلقّون الراؤون إلى عودة الوطن الجميل هتافه.
فهل يعود الجميل، من خرابه إلى عماره وازدهاره، ويجد أبناؤه، جميع أبنائه، أمكنة لهم ليحيوا فيه فرحين سعداء؟
جواب هذا السؤال لديهم، وحسب الأديب أن أثاره…
زر الذهاب إلى الأعلى