ثرثرة على أجنحة السراب بين باريس وبيروت (أحمد عياش)
د. أحمد عياش – الحوارنيوز- خاص
زينب..
لا تكرّري سؤال الآخرين، لن أحتفظ بما أكتب ولن اجعلها كتباً لي، لو اردت لجمعت ما اكتب ولزدت من عدد الكتب اوراقا حزينة ويتيمة جديدة.
الافضل يا زينب ان اسمع وان اقرأ ما أكتب عن طريق الآخرين، ليختفي اسمي بين الاقلام وبين حوارات المارّين على الرصيف و لينتهي العمر كما يشاء ولابقى مجهولا بين متّهمين دائمين.
اتدرين يا زينب، هذا العالم ليس لي ولا يعنيني، ويوم كتبت هذا القمر لي فاتركوه يرسم الفتاة ويغنيها رذاذ مطر و رعب الوجوه ،كنت اكذب،لا املك الا التعبير عن استيائي.
ربما يا زينب،فرصتي التالية في حياة اخرى افضل،نعم اني على يقين اننا لا نختفي واننا لا نندثر،اننا نتحوّل لأي شيء الا للعدم.
من تراب والى التراب نعود،صحيح،الا ان التراب الذي نعود اليه ليس التراب نفسه الذي انطلقنا منه.
جئنا من تراب بريء ونترك خلفنا الوحل.
والوحل تراب ايضاً،صحيح،الا انّه من صناعتنا نحن.
انظري حولك،ماذا ترين،تعالي وانظري كيف ينتهي الفرنسيون في دور العجزة بكامل قواهم العقلية لينتظروا الموت.
مؤلم جدا ان يكون لهؤلاء اطفال واحفاد كُثر منتشرون في كل مكان الا في باحة دار العجزة.
تعالي وانظري اليهم في باحة قسم الطوارىء،ينتظرون معاينة الطبيب،تأتي بهم سيارة الاسعاف وتمضي .
ليس معهم احد.
البارحة فهمت لماذا احترام الميّت ليس بدفنه سريعا،انهم بحاجة للاتصال بالعائلة كي تحضر،جميعهم على سفر داخل الوطن،في غربة عن الاهل وحدهم.
دخول دار العجزة يعني عدم الخروج الا بنعش. ليست العبارة لي يا زينب،قالها لي السيد فيليب ابن السادسة والثمانين عاما،بعد ان اطلق النار من بندقية صيد على بطنه وبعد ان اجروا له عدة عمليات جراحية لينقذوه غصبا عنه.
آلمه جداً انّه بقي على قيد الحياة ،لا اعرف كيف يصلون هنا الى امنية الموت متأخرين جداً ، فجماعتنا يتمنون الموت منذ الطفولة!
اينتحر ابن التسعين بعد ان عمل وتعب وادّخر مالا لشيخوخته في دار العجزة؟
اتدرين يا زينب،تلك السيدة كاتيا،مدمنة على الهيرويين،تأتي الى القسم من اجل وصفة “الميتادون” البديل عن المورفين. بعد ان انجبت ثلاثة اطفال تذكّرت ان خالها قد اغتصبها بعمر الثالثة عشرة من عمرها، وانها حملت منه سفاحاً .و رغم ان خالها دخل السجن لسبع سنوات،كرهت والديها لانهما اصرّا على اجهاضها في الاسبوع العشرين من حَملها ، والان تعيش مع صديقة لها بعد ان اكتشفت انها سحاقية عند اوّل الخمسين من عمرها.
نعم،لقد دعتني وصديقتها الى حفل زفافهما البارحة.
لا تعرف شيئا عن اولادها ولكنها وعدتني ان تسال عنهم.
المورفين يصنع ادمغة مختلفة يا زينب.
انهم يتحوّلون لادمغة لا نعرفها ولكننا سنتطوّر باتجاهها سريعا .
نتطوّر!
لا.
نتقدّم!
لا.
العالم يفقد عقله.
اتدرين يا زينب اني في آخر سنوات التسعين من القرن الماضي قمت بجولة على قيادات من جماعتنا احذرهم من ظاهرة المخدرات والفلتان الاخلاقي التي بدأت ملامحها تتفشى في مناطق جماعاتنا ،وانه لا بدّ من مراكز علاج،اتدرين ماذا كانت اجاباتهم آنذاك.؟
غضبوا مني وقالوا ان الحالة الاسلامية تحصّن المؤمنين وان كلامي دعاية مستنكرة.
عندما اضطروا لبناء مراكز لمكافحة الظاهرة المشبوهة ابعدوني بحجة افكاري اليسارية العتيقة.!
يُفضلون المتملقين.
نحن لا نتواضع يا زينب،تحوّلنا من ألطف ومن اشرف الناس الى ابأس الناس.
“أبأس”.. هل هي مفردة عربية وصحيحة؟
لا ادري.
البؤس يقتلنا ولا نعترف،محصّنون بالوهم لا بالايمان.
زينب ،اخبريني ما قيمة النقطةB1 عند الناقورة التي تفصلنا عن العدو الاصيل والجميع لديه صواريخ؟
صحيح، وحده الفلسطيني لا يتكلم ولا يحتج وكأن البحر والبرّ ليسا بحره ولا برّه.
ولا حتى السماء سماؤه.
عالم غير متزن، مهتزّ، البارحة قام الاوكرانيون بهجوم مضاد.
زينب اتريدين ان تضحكي؟
قبل يومين توجهت الى المصرف هنا في باريس لأسحب مالا، رفضوا اعطائي بحجة ان المبلغ الذي اطلبه كبير، صارت الثلاثة الاف يورو مبلغا مزعجا للمصرف .
عدوى لصوص مصارفنا ستصل لكل مصارف العالم.. مسألة وقت فقط.
النظام المالي العالمي سينهار حتماً.
الراسمالية الحرام ستنهار.
الديمقراطية السّامة تلسع نفسها.