ثرثرة شاب فوق أجواء النظام الفاسد
كتبحيدر شومان:
تخرجتُ من جامعتي منذ شهور قليلة… لم أفرح كثيراً ولم تفرح عائلتي، فالآتي لا يبشّر بأيام مزهرة… لا أفهم السياسة ولا أفقه مفرداتها، لكني منذ أن مسّ النضج وجداني والوعي نفسي شعرت بحسرات كل من حولي وخيبات السنين التي عانوا وقعها ولمّا يزالوا، فزعماء السياسة في وطني لم يتركوا للأمل أي منفذ، وللحلم أي سبيل، وللفجر الواعد أي وسيلة يشقّ من خلالها عباب الظلمة الدامسة. ولم أفهم قط لماذا يختارهم الناس في الانتخابات في كل مرّة، ويقاتلون بعضهم بعضاً في سبيل إعلاء كلماتهم وراياتهم ونفوذهم. فهل إن للطائفية في وطني درباً يهون في سبيل سلوكه كل المحرّمات؟ هل الشيطان الذي ينتمي إلى طائفتي ومذهبي أفضل من الآخر سواءً أقلّت شيطنته أو كثرت؟ كما لم أستطع فهم كيف لا يُترجم مثل هذا الانتماء إلى واقع فضيلة على الأرض، فمن يتمسك بدينه خوفاً من ربه لا يسرق أو يقتل أو يكره من لا يماثله في الانتماء إلا إذا كان تعصباً أعمى ليس من محبة الله وطاعته في شيء. ألهذا لا يحاسب المسؤول وتخلو السجون من كبار اللصوص والفاسدين؟
ولا أفهم الاقتصاد ولم أجرب دخول معتركاته، لكني شعرت أن أيدي خفيّة بدأت قبل أن أولد ولمّا تزل إلى الآن تعبث باقتصاد البلد لجعله مطية سهلة الانقياد لشلّه والسيطرة على مداركه عند كل حاجة أو طارئة. فلماذا زعم حاكم مصرف لبنان في أكثر من مناسبة أن الليرة بخير ولا خوف عليها أبداً؟ ولماذا انهار سعرها فجأة؟ ولماذا ضاعت أموال الناس في المصارف ولا يبدو أن هناك أملاً قريباً في استرجاعها؟ ألهذا يتابع والدي النشرات الاقتصادية باهتمام كبير والدموع تترقرق في عينيه وفي نظراته إلى أخوتي الصغار ترتسم الكثير من المعاني الخائفة؟
لم أحلم يوماً بالهجرة، ولم أعتبر ذلك وطنية أتباهى بشعاراتها وأحمل راياتها، لكني أحب أن أعيش مع أهلي وأصدقائي وأناس كانوا في حياتي عنواناً براقاً لحياتي. فلمَ أهاجر؟ ولماذا فراق الأحبة؟ وشجع قلب أمي موقفي وهزأ به عقل أبي، ولعنه رفقائي، ونصحني البعض أن أتريّث عسى أن يكون في تشكيل الحكومة فرج للبلد وسبيل لبقائي في المدى المنظور. فالمبادرة فرنسية والأمل-كما يزعمون- وارد طالما أنها ليست داخلية، ولم نعتد أن نستقل في أية خطوة هامة في لبنان، سواءً أكان في انتخابات رئاسية أو نيابية أو تشكيل حكومة أو استقالتها، لقد اعتدنا استعباد مسؤولينا الذين لا يحلمون بالحرية طالما الأموال لا ينفد طريقها إليهم، والزعامة باقية بقاء حيواتهم الطويلة وأولادهم من بعدهم.
لكن الغريب أن الرئيس الحريري عاجز عن القيام بمهمته لأسباب تختلف حقيقتها باختلاف كل فريق وموقعه، وكل يحمّل مسؤولية التعطيل للآخر، ويكيل له الاتهامات، ويبرئ نفسه من أية نواقص أو موبقات.
لا أزال في مقتبل العمر لكني أعلم جيداً أن بلدنا لن تقوم له قائمة ما دام النظام الطائفي حاكماً وسائداً ومسيطراً، وما دام التعصب الطائفي يسيّر الشعب طولاً وعرضاً، وما دامت الزمرة الحاكمة من الإقطاعيين والأرستقراطيين تباركها غالبية الفئات من مختلف الطبقات، وخصوصاً الطبقة الفقيرة، وتدعمها طبقة دينية مختلفة التوجّهات وترفعها وتضعها خطوطاً حمراء من خطوط الطائفة أو المذهب إذا ما جدّ الجدّ ووُجّه نحو أحدها أي اتهام أو لوم أو نقد، مع أنه بعيد في خُلُقه ومسلكه وممارساته عن أي دين أو مذهب، بل بعيد عن أية قيم أخلاقية، والصور أمام الجميع واضحة فاضحة صارخة جلية.
وأنا على يقين أن الحل لن يكمن في حكومة الحريري القادمة، ولا في أية حكومة أخرى، لأن الأزمة في النظام قبل الأشخاص، وفي النصوص قبل النفوس، وفي العقلية المتخلّفة قبل الجهلة والمتخلّفين، وسوف يطول انتظاري وألوم قلب أمي ويلومني عقل أبي، وتسرقني السنون كما سرقت أحلام الكثيرين من قبل، وأسير بعدها في ركب الناس أنتخب زعيمنا الذي سرق أعمارنا، وأقاتل في سبيل إعلاء كلمته ورايته ونفوذه…