تطوير القطاع العام في إطار الشراكة مع القطاع الخاص: تغليب قواعد المنافسة والجدارة والاستحقاق وتفعيل الرقابة (غسان بيضون)

بقلم غسان بيضون* – الحوارنيوز
أياً كان شكل الحكومة فإن غايتها النهائية لا بد أن تكون تأمين مصالح الدولة، وأفضل الحكومات إدارةً هي الأنجح في تحقيق الانتظام وحسن تدبير شؤون المجتمع وتحقيق الصالح العام.
أواخر الخمسينات تجلت الإدارة اللبنانية بأبهى صورها. وقد ترافق ذلك مع إنشاء مجلس الخدمة المدنية المعني بشؤون الوظيفة العامة، والتفتيش المركزي المعني بممارسة الرقابة على أداء الإدارات وموظفيها. وقد تشكل الإطار القانوني المباشر للإدارة العامة من: نظام الموظفين، الصادر بالمرسوم رقم 112/1959، وتنظيم الإدارات العامة الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 111/1959.
تتعتمد الإدارة العامة في اداء وظائفها على ثلاثة عناصر رئيسية هي الـموظف العمومي، وأحكام الأنظمة التي ترعى ممارسة هذا الموظف صلاحياته وتضبط أداءه، ومن مختلف التجهيزات التي توضع في خدمة هذا الموظف وتوفر له الوسائل التقنية وإمكانية استخدام النظم التي تؤمن تواصله مع الغير من المعنيين بشؤون إدارته، وتسهّل وصوله إلى المعلومات التي يحتاجها في أدائه، وإيصال ما يصدر عنها من قرارات وتعليمات وإعلانات وقرارات تهم المواطن والمكلفينن بالضريبة وغيرهم من المعنيين بمتابعة شؤون موجباتهم تجاه الدولة بمختلف هيئاتها؛ ناهيك عن مختلف المعلومات التي بات من حق كل مواطن الوصول إليها، وتساهم في توفير الشفافية بغاية الحد من ممارسات الفساد ومكافحته.
إن مستوى التكامل والانسجام بين هذه العناصر يحدد درجة كفاءة وفعالية الإدارة ونوعية أدائها وجدواها.
بداية الانحراف:
خلال العام 1975 حصلت أحداث داخلية في لبنان، ولم تستقر الأوضاع فيه حتى العام. وقد أهملت الحكومات المتعاقبة، خلال هذه الفترة، شؤون الإدارة العامة، وتراجع أداء هذه الأخيرة على مختلف المستويات والنواحي، بموازاة تراجع القدرة الشرائية لرواتب وأجور القطاع العام، في اكثر من مرحلة، وكما هو عليه الحال اليوم.
بنتيجة عجز الدولة عن إعطاء الموظف حقوقه وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، تم التغاضي عن التزام هذا الأخير بالكثير من موجباته وغابت “الرقابة” على الإدارة والموظف، إذ أصاب أجهزتها ما أصاب الإدارة من خلل وتراجع في مستوى الأداء والقدرة على ممارسة صلاحياتها على المستوى المطلوب. وكان من أوجه تفاقم أوضاع الإدارة سوءاً ما اصطلح على وصفه بالـ”الترهل”، التعبير يقصد به ازدياد عدد العاملين في الإدارة دون حاجة تبرر التحاقهم بها بطرق وصيغ مخالفة لأصول الاستخدام والتعيين.
اتخذت هذه الصيغ تسميات مبتكرة منها: يد عاملة مؤقتة، فنية ومساعدة، عاملون بالفاتورة أو بالساعة. وهذا صحيح، إنما يعود السبب في ذلك إلى عدم جدّية الحكومات في تنفيذ القرارات والتوجهات المتعلقة بالإصلاح الإداري. وقد ترافق ذلك مع الاستعانة المتسرعة بالقطاع الخاص، وكان منها، على سبيل المثال، نقل خدمة البريد الرسمي إلى هذا القطاع قبل توفير الاعتمادات اللازمة لذلك في موازنات الإدارات، ودون تمييز الدولة بتعرفة خاصة مخفضة ودون اشتراط خدمة سريعة تلائم حاجة الإدارة والمتعاملين معها في تيسير انتقال المعاملات ومعالجتها ضمن المهل المعقولة، وكان منها أيضاً تكليف المصارف وغيرها من شركات القطاع الخاص في تحصيل وقبض الضرائب والرسوم لصالح الخزينة، نيابة عن صناديق هذه الأخيرة.
تراجع أداء ودور الإدارة العامة على مستوى العالم:
مع الوقت وتبدل الظروف الاقتصادية تراجع دور الإدارة العامة وأدائها في مختلف دول العالم، وكان ذلك بسبب عدة عوامل أهمها: تطور القطاع الخاص بحيث بات يستقطب الكفاءات لقاء رواتب عالية وعادلة؛ وتقادم الأنظمة وعدم قدرتها على تلبية مقتضيات التطور؛ وتراجع الشعور بالانتماء إلى الخدمة العامة إلى حد لم تعد معه الوظيفة العامة تعني للموظف سوى وسيلة للعيش والارتزاق، وفي كثير من الأحيان لاستمداد السلطة والنفوذ وصرفهما باتجاه تحقيق المنفعة الشخصية على حساب المصلحة العامة، وباتت الوظيفة العامة للوجاهة الاجتماعية وللتسلط وممارسة النفوذ والإثراء. وفي لبنان، ساهم في ذلك، كما أسلفنا، تراجع الرقابة على أعمال الإدارة والموظفين بنوعيها:
الرقابة الداخلية، من خلال الرقابة التسلسلية والالتزام بالأصول والقواعد والتعليمات المقررة في مختلف مستويات وأنواع النصوص القانونية والتنظيمية التي ترعى أداء الموظف، والرقابة الخارجية المتمثلة برقابة ديوان المحاسبة المسبقة على التلزيمات عند تجاوزها مبلغاً محدداً، والرقابة المؤخرة على الحسابات العمومية، والرقابة القضائية على الموظفين، ومثلهم من المتدخلين في إدارة واستخدام المال العام، ومن خلال التفتيش المركزي وبرنامجه السنوي والمهمات الخاصة، وتجميد، إن لم نقل تحييد مجلس الخدمة المدنية، المعني بإجراء المباريات وتأهيل وتدريب الموظفين من خلال معهد الإدارة، والرقابة على تعيين هؤلاء ومتابعة شؤونهم الوظيفية وتقييم أدائهم، وذلك من خلال صدور قرارات منع التوظيف المتكررة غير المدروسة وغير الواقعية، إن لم نقل “العمياء” قياساً على الواقع الحالي الذي أفضت إليه هذه القرارات، والتي جاءت في إطار تلبية شروط خارجية. وكذلك من خلال تراجع فعالية إدارة الأبحاث والتوجيه التي تتولى إرشاد الإدارات العامة إلى الوسائل الكفيلة برفع مستوى أدائها وزيادة فعاليتها وتمكينها من القيام بمسؤولياتها على خير وجه.
إن الشغور المتفاقم في وظائف القطاع العام، لا سيما القيادية منها، قد أدى، في العديد من الحالات، إلى شغل وظائفاَ قيادية بـ“تكليف” من “الوزير” يضمن “طاعة المكلّف”، ويوصل موظفين دون المستوى المطلوب إلى مواقع قيادية ذات طابع استراتيجي، كأن تكلّف مستخدمة من الفئة الرابعة بمهام مدير عام، أو موظفة من الفئة الثالثة بمهام عدة مديرين عامين في آن معاً، أو تكليف اختصاصي في المعلوماتية بشؤون الإدارة المالية والمحاسبية؛ ناهيك عن التوظيف المقنع، الذي شكّل بديلاً واقعياً يغلب فيه طابع المحسوبية على مبدأ الكفاءة والجدارة في اختيار الموظفين، وكذلك أدى إلى شلل العديد من الإدارات والموؤسسات العامة، كما هو حال وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان اليوم، التي تعاني من الشغور في مديرياتها العشر. وكذلك أدى إلى خلق وحدات خارج الهيكلية القانونية للإدارات والمؤسسات العامة، مثل المركز اللبناني لحفظ الطاقة، على سبيل المثال لا الحصر.
إن جنوح العديد من وزراء ما بعد الطائف باتجاه ممارسة صلاحياتهم في الواقع خلافاً للدستور، واستغلالهم التوجه الحكومي، منذ أوائل التسعينات، نحو التعاون مع القطاع الخاص، قد حوّل بعض اهؤلاء المعنيين بالوصاية على المرافق العامة الخدماتية الاستثمارية، إلى “ملوك” في وزاراتهم: كهرباء، اتصالات، جمع ومعالجة النفايات، شؤون المركبات ورخص القيادة والسير، خدمات البريد، والوقوف العابر، … .
نحن بحاجة اليوم إلى إدارة قطاع عام حديث تشكل ركيزة للحكم وأداة فاعلة ومنتجة، وتكون قادرة على مواكبة التطورات والمستجدات والمتغيرات، ومؤهلة لمنافسة القطاع الخاص ومحاكاة العصر، ومهيأة لاستعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة، وتزخر بالكفاءات القادرة على التكيف مع تطور حاجات الدولة والمجتمع وتلبيتها. ولكي ينجح الإصلاح ويحقق أهدافه لا بد أن يشمل التطوير بمعنى مراعاة التغيرات والتعامل مع الواقع الجديد، والتنمية، بمعنى استمرار السعي لضمان الوصول إلى إدارة عامّة تعمل بالكفاءة والفعالية والشفافية اللازمتين، والاستفادة من أحدث التقنيات لتقديم أفضل خدمة للمستفيدين منها بتكلفة عادلة.
إن مقاربة الإصلاح الجدّي والمجدي تقتضي التمييز بين إمكانية الاستغناء عن بعض الوظائف، بنتيجة التطور المعلوماتي وتأمين بعض الخدمات من قبل القطاع الخاص، وبين الاستخدام العشوائي للعاملين لتلبية حاجات بعض الوزارات والمؤسسات الخدماتية وهيئات عامة أخرى. وكذلك تقتضي الانطلاق من الواقع الحالي للقطاع العام ومرافقه الخدماتية، ومراعاة الأسباب والعوامل والظروف والتطورات التي أوصلت إليه، واستدعت الحاجة إلى إعادة النظر بدوره وحجمه وهيكليته ووظائفه في ضوء التطورات الحاصلة على مستوى قدرة الدولة على الاستمرار بتأدية الخدمات للمواطن والمجتمع وتمويلها، ومقتضيات الوصول إلى صورة جديدة تجمع بين القطاعين العام والخاص في إطار من التوازن والتكافؤ في العلاقة. وكذلك انطلاقاً من تجارب التعاون مع القطاع الخاص الماضية والراهنة، ومن نظرة شاملة تسعى إلى إيجاد معالجة جدّية تكون علمية وواقعية في آن، ولا تكتفي باستيراد تجارب ودراسات نظرية يتعذر إسقاطها على واقع لبنان، كما هو حال تلك الجهود التي تولتها، خلال العقود الماضية، منظمات وهيئات لم تفلح في الوصول إلى إحداث تغيير في الواقع، فتمخضت جهودها عن مجرد تقارير حول نتائج دراسات بقيت في الأدراج، وعن تلزيم قطاعات خدماتية أساسية بما يشبه التراضي لفترات طويلة وبتكلفة عالية تتجاوز قدرات المواطن الاقتصادية، وقدرات الدولة على ممارسة رقابة جدية وفاعلة على أنشطة القطاع الخاص، وبالتالي لقاء مردود ضئيل للخزينة لا يقارن بأرباح “المشغّلين” من أصحاب الامتيازات.
إن شمولية الإصلاح تستوجب أن يطال الإدارة بمعناها الواسع، فتشمل معها المؤسسات العامة والبلديات، ويتناول القضاء والأجهزة الرقابية، وأن تجري مكافحة الفساد بشكل منهجي وجدّي، وضبط العلاقة مع القطاع الخاص، بالتوازي مع العمل على الحدّ من تسلط الوزير على الإدارة والمرافق العامة وتعسفه في ممارسة السلطة خلافاً للمادة 66 من الدستور، وتعزيز دور الإدارة والمدير العام لتمكينه من ممارسة صلاحياته ومنها “الرقابة” على الوزير، وإبلاغ رئيس الحكومة والأجهزة الرقابية عن مخالفاته، وتطبيق حق الوصول إلى المعلومات الذي يضع المسؤولين بما فيهم الوزراء تحت الضوء ورقابة المجتمع.
وحيث أن عدم إعداد الحسابات وتدقيقها يمكن أن يخلق بيئة مؤاتية للفساد، فإن البداية يجب أن تنطلق من ثلاث خطوات هي:
- إجراء مسح للوظائف، الإدارية والفنية، الملحوظة في ملاكات الوزارات، وإعداد تقرير شامل يبيّن المشغول منها بالأصالة، أو بالإنابة، أو بالتكليف، والحاجة إلى ملئها بالتعيين أو الترفيع أو النقل، وفقاً لرأي مجلس الخدمة المدنية؛
- إجراء مراجعة نقدية شاملة لتجارب التعاون مع القطاع الخاص، يجريها ديوان المحاسبة، وتتركز على طريقة تلزيم كل منها وجدية المنافسة فيها، وعلى المصادقة عليها وتمديد العقود المترتبة عنها، وعلى نتائجها المالية وانعكاساتها على موارد الخزينة وأعباء المواطن؛
- وضع خطة تبدأ بتمكين الأجهزة المالية والمحاسبية لدى المؤسسات العامة لتمكينها من إعداد حساباتها النظامية، وبمعالجة أزمة حسابات الأموال العمومية بمختلف أشكالها.
يضاف إلى كل ذلك مراجعة نتائج عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتوفير ما يلزم لتفعيل رقابة ديوان المحاسبة على الحسابات، وكذلك تفعيل الرقابة البرلمانية على الحكومة ووزرائها، حيث يلزم، واستكمال النصوص اللازمة لتفعيل القوانين المعطلة والمعلق تنفيذها على صدور مراسيم تطبيقية، وتفعيل هيئة محاكمة الرؤساء والوزراء المنصوص عليها في المادة 80 من الدستور.
* مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه ومحلل سياسات الشراكة مع القطاع الخاص في المعهد اللبناني لدورات السوق
*بالتزامن مع صحيفة الجمهورية


