بقلم الدكتور عماد عكوش – الحوار نيوز
لطالما تمتع الدولار الأمريكي بمكانة مهيمنة في الأسواق المالية العالمية. فهو العملة الأكثر استخداماً في التجارة الدولية والاحتياطيات النقدية ، مما عزز من نفوذه الاقتصادي والسياسي. ومع ذلك ، يواجه الدولار في الوقت الحالي مجموعة من التحديات التي تهدد هيمنته المستمرة ، وتشير دراسة حديثة من معهد بروكينغز إلى أربعة عوامل رئيسية قد تقلل من سيطرة الدولار على النظام المالي العالمي ، هذه العوامل تشمل العقوبات الأمريكية ، الديون الأمريكية ، التقدم في تكنولوجيا الدفع ، وظهور العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs).، لكن طبعا” هناك عوامل اساسية أخرى يمكن ان يكون لها تأثير كبير على الدولار وتراجعه ، لذلك فأننا نرى ان أهم هذه العوامل هي :
– العقوبات الأمريكية وتآكل الثقة بالدولار
بدأت الولايات المتحدة في استخدام العقوبات كأداة سياسية واقتصادية، وخاصة بعد غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022. فرضت هذه العقوبات ضغوطاً كبيرة على الاقتصاد الروسي، مما دفع روسيا ودول البريكس الأخرى إلى البحث عن بدائل للدولار ، ويعتبر الاعتماد المفرط على الدولار نقطة ضعف ، حيث يمكن للولايات المتحدة استخدام نفوذها لمعاقبة الدول بشكل فعال من خلال النظام المالي العالمي.
هذا وتسعى روسيا ، على سبيل المثال ، إلى تقليل اعتمادها على الدولار من خلال تعزيز استخدام اليوان الصيني في التجارة الدولية ، وإنشاء منصات دفع بديلة لا تعتمد على الدولار . كما أشارت الصين ، التي تعرضت شركاتها لعقوبات أمريكية ثانوية ، إلى رغبتها في الترويج لليوان كعملة بديلة . هذه التحركات ، وإن كانت حتى الآن محدودة التأثير، الا انها تشير إلى بداية تحول بعيد عن الدولار في بعض الأجزاء من العالم.
وفقًا لمعهد بروكينغز، صرحت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، بأنه إذا استمرت الولايات المتحدة في فرض عقوبات بشكل غير متوقع ومنفرد ، فقد يؤدي ذلك إلى تآكل الثقة بالدولار وتهديد هيمنته. بعبارة أخرى، القوة التي يمنحها استخدام الدولار في فرض العقوبات قد تؤدي إلى نتائج عكسية ، وتدفع الدول إلى البحث عن بدائل.
– عدم استقرار السياسات الاقتصادية
تُعتبر السياسات الاقتصادية غير المستقرة عاملاً مهماً يمكن أن يؤثر على قوة الدولار . عندما تُظهر الحكومة أو البنوك المركزية تغييرات مفاجئة في السياسة النقدية أو المالية ، يمكن أن يُؤدي ذلك إلى قلق المستثمرين بشأن الاستقرار الاقتصادي. على سبيل المثال ، تغييرات في سياسة أسعار الفائدة ، أو تغييرات كبيرة في السياسات الضريبية ، يمكن أن تُحدث اضطرابات في الأسواق المالية. عدم الاستقرار في السياسات يُمكن أن يُقلل من الثقة في الاقتصاد الأمريكي، مما يُؤدي إلى تراجع قيمة الدولار أمام العملات الأخرى.
– ديون الولايات المتحدة المتصاعدة
الديون الأمريكية المتزايدة تشكل تحدياً آخر لهيمنة الدولار ، ومع استمرار الحكومة الأمريكية في الإنفاق ، يتزايد عبء الديون، مما يثير مخاوف المستثمرين حول استدامة الدين الأمريكي ، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تصل بعد إلى مستويات ديون غير مستدامة ، إلا أن خفض التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف مثل فيتش يعكس قلقًا متزايدًا. كما ان الأوضاع السياسية المضطربة، مثل الخلافات حول الميزانية التي تؤدي إلى إغلاق الحكومة، تضيف إلى مخاوف المستثمرين ، حيث يشير الباحثون في معهد بروكينغز إلى أن المزيد من عدم الاستقرار السياسي يمكن أن يؤدي إلى تآكل الثقة في الدولار، مما قد يجعل المستثمرين أكثر حذراً تجاه الاحتفاظ بالأصول المقومة بالدولار.
– التجمعات الاقتصادية الكبيرة
تشير التجمعات الاقتصادية إلى الكتل الاقتصادية الكبيرة التي تتكون من مجموعة من الدول التي تملك اقتصاديات كبيرة ومؤثرة على المستوى العالمي. من الأمثلة على ذلك الاتحاد الأوروبي، والصين، والهند. هذه الكتل الاقتصادية الكبيرة يمكن أن تُقلل من الاعتماد على الدولار من خلال تطوير أنظمة دفع خاصة بها أو تعزيز عملاتها المحلية. على سبيل المثال، الاتحاد الأوروبي يسعى لتعزيز اليورو كعملة احتياطية عالمية بديلة للدولار فإذا استمرت هذه التجمعات في النمو وزيادة تأثيرها، فإنها قد تُقلل من الحاجة للدولار كعملة احتياطية.
– تقدم تكنولوجيا الدفع
التقدم في تكنولوجيا الدفع هو عامل آخر يهدد هيمنة الدولار. في السابق، كان استخدام الدولار مفضلاً لأنه يسهل تحويله إلى عملات أخرى بتكاليف منخفضة. ولكن مع ظهور أنظمة الدفع الحديثة، أصبح من الممكن تبادل العملات غير التقليدية بسهولة وكفاءة أكبر.
على سبيل المثال، يمكن أن يتم تداول العملات بين الصين والهند دون الحاجة إلى تحويلها إلى دولارات أولاً. هذا التطور يقلل من الحاجة إلى الدولار كوسيط في التجارة الدولية، مما يقلل من الطلب عليه ، ويرى خبراء مثل إسوار براساد من معهد بروكينغز أن هذا التحول يمكن أن يقلل من الاعتماد على “عملات السيارات”، بما في ذلك الدولار، بشكل ملحوظ في المستقبل.
– إمكانية تسعير النفط والغاز بغير الدولار
يُعرف الدولار باسم “عملة البترودولار” لأنه يُستخدم بشكل شائع لتسعير النفط والغاز فإذا قررت الدول المنتجة للنفط والغاز استخدام عملات أخرى ، مثل اليورو أو اليوان الصيني، لتسعير منتجاتها، فإن ذلك قد يُقلل من الطلب على الدولار ، وبعض الدول، مثل روسيا والصين، بدأت بالفعل في مناقشة اتفاقيات لتسعير النفط والغاز بعملات غير الدولار. هذه التحركات يمكن أن تُعزز من استخدام العملات الأخرى في التجارة الدولية وتُقلل من هيمنة الدولار.
– العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)
تطور العملات الرقمية للبنوك المركزية يمثل تهديدًا مباشرًا للدولار. تعمل دول مثل الصين على تطوير عملاتها الرقمية الخاصة، مما يمكنها من تقديم وسائل دفع أرخص وأسرع وقد شهدت هذه الوسائل نموا” كبيرا” بين البنوك عبر الحدود في الصين (CIPS) بسرعة، وهي مؤهلة لتقديم بديل للنظام الذي يهيمن عليه الدولار.
في المقابل، ورغم أن الفيدرالي الأمريكي قام بتطوير شبكة دفع فورية، إلا أنه لم يتحرك نحو إنشاء عملة رقمية للبنك المركزي حيث لا زال خبراء معهد بروكينغز أن الولايات المتحدة قد تتخلف عن الدول الأخرى في هذا المجال، مما يمكن أن يضعف من هيمنة الدولار على المدى الطويل.
– تراجع الاقتصاد الأمريكي أمام الاقتصادات الأخرى
تراجع الاقتصاد الأمريكي بالمقارنة مع الاقتصادات الأخرى يُعد تحديًا آخر أمام الدولار ، وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال الأكبر عالميًا، إلا أن اقتصادات أخرى، مثل الصين والهند، تُظهر نموًا قويًا ومستمرًا وإذا استمر هذا الاتجاه، فإن الاقتصادات الناشئة قد تبدأ في تعزيز عملاتها وزيادة استخدامها في التجارة الدولية، مما يُقلل من الاعتماد على الدولار.
لكن رغم التحديات التي يواجهها الدولار، فإن الخبراء يجمعون على أن هيمنته لن تتلاشى على المدى القريب. لا يزال الدولار العملة الأكثر استخداماً واحتياطاً في العالم، ويرجع ذلك إلى قوة الاقتصاد الأمريكي، والاستقرار السياسي النسبي، والثقة المؤسساتية. في الوقت الحالي، لا يوجد بديل قوي ينافس الدولار بجدية ، ومع ذلك، تشير هذه العوامل إلى ضرورة الحذر. التحولات في النظام المالي العالمي قد تحدث ببطء، ولكنها تحدث بلا شك. إذا استمرت الولايات المتحدة في استخدام الدولار كأداة سياسية بطرق قد تُضعف الثقة فيه، أو إذا استمرت الديون في التصاعد دون حل، أو إذا تركت الولايات المتحدة الابتكارات التكنولوجية خلفها، فإن هيمنة الدولار قد تكون مهددة بالفعل في المستقبل ، وعلى الرغم من أن الدولار لا يزال العملة الرئيسية في العالم، إلا أن التغيرات في السياسات الاقتصادية، والتوجهات نحو الجامعات الاقتصادية الكبرى، والتغيرات في تسعير النفط والغاز، وتراجع الاقتصاد الأمريكي أمام الاقتصادات الأخرى يمكن أن تُقلل من هيمنة الدولار وتفتح الباب أمام العملات الأخرى لتلعب دورًا أكبر في المستقبل.