رأي

التطبيع العربي: بين هزيمة الكيان الصهيوني وانتصاره(فرح موسى)

 

أ.د.فرح موسى* – الحوار نيوز

عُقدت قبل أشهر القمة الإسلامية بوحي النصرة لفلسطين،واستمع العرب والمسلمون إلى خطاب الوحدة والدعم لإقامة الدولة الفلسطينية بعد ترهل طال أمده،وتطبيع حميَ وطيسه،واشتّد بريقه.

وكما نلاحظ دائمًا أن قادة العروبة والإسلام يخاطبون العالم والمؤسسات الدولية بما يوحي أن لدولهم وسياساتهم حضورًا وفاعلية في صيانة الحقوق،وحماية الوجود،وهذه هي حالة كل القمم منذ عهدناها في تاريخنا،سواء كانت عربية،أو إسلامية. قمم وهمم متعبة تأتي في سياق التلقي للأحداث،وذكر الأمجاد،من دون أن يكون لها أي تأثير على السياسات العالمية،والقرارات الدولية،وخصوصًا تلك القرارات المتعلقة بالحق الفلسطيني.

وقد جاءت القمة العربية مؤخرًا لتؤكد على ذات الخطاب في الوحدة والدعم مع زيادة الدعوة إلى مؤتمر للسلام،وكان يفترض بهذه القمة بعد ثمانية أشهر من القتل والتدمير والتهجير في غزة،أن تخرج في مقرراتها عن التنديد والاستنكار لما يجري من عدوان، إلى مزيد من التوهج في الموقف العربي على نحو يؤدي إلى وقف العدوان،وفتح المعابر وإدخال المساعدات،لا أن ينبري أحدهم إلى اتهام المقاومة الفلسطينية بالتسبب بالحرب،وكأن العدو يحتاج إلى أسباب لكي يعتدي على البلاد العربية والإسلامية،وكأنه لم يعتدِ في تونس والعراق والسودان ولبنان!!

إنه البؤس العربي في زمن الاستلاب والدعوة إلى نقيض السلام… لقد استمع العرب لهذا الخطاب،وهو ،برأينا،جوهر ما كان يراد سماعه في اللحظة الحرجة لمسارات التطبيع،ورهانات التلبيس العربي على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

نعم،لم يعد أمام أهل الفكر والسياسة في عالمنا العربي والإسلامي إلا أن يستجمعوا ذواتهم،وأن يلحظوا جيدًا ما تعنيه الدعوة إلى وقف التطبيع مع العدو،أو أن يشترط لإقامة التحالفات ومعاهدات الدفاع المشترك وقف العدوان على أمل التطبيع بعد التدمير والتقتيل، بدل أن يُدعى إلى محاسبة العدو على عدوانه،وتغيير وجهة الأحداث لتكون أكثر انسجامًا مع دين العرب ودنياهم.

كما ينبغي أيضاً لحاظ حقيقة الدعوة إلى مؤتمر السلام في الوقت الذي يعلم العرب والمسلمون أن الغرب المستمعر يرفض ذلك ما لم يكن السلام قائمًا على التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني،فالغرب يريد سلام التطبيع وسيادة إسرائيل في الجغرافيا والتاريخ ،وقد سبق لعلم العرب والمسلمين،ولكل من ترهل عن حقه،واتهم أبناء جلدته،نقل السفارات إلى القدس،وضم الجولان،وتعزيز الاستيطان،وغير ذلك مما سبق حرب غزة بزمن  طويل وغريب، إنها دعوة عربية ممالئة،ولا تستوفي شروط القوة والوعي والممانعة العربية التي من شأنها إلزام الغرب بتحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية.هذا إذا لم تكن الدعوة قد جاءت للتمويه على ما يعتمده بعض العرب من سياسات ملتبسة، إن لم تكن مخادعة حول الحق الفلسطيني المشروع. فالعدو يرفض إقامة الدولة،وحربه كانت دائمًا مدعومة بسياسات التطبيع العربي،فما يكون معنى الدعوة إلى السلام إن لم تكن شروطه العربية والإسلامية متوفرة وقادرة على إيقاف الحرب؟ ومتى كانت للعرب قدرة التفاوض،وهم لما يفرغوا بعد من حروبهم الداخلية،ومنازعاتهم الإقليمية،ومآزقهم الاقتصادية،التي تهدّد كياناتهم،وتجعلهم أكثر ضعفًا وقلقًا على وجودهم،؟

إن العرب والمسلمين اليوم هم أمام تحدٍ جديد فرضته حرب غزة وتشابك جبهات المقاومة،ولم يعد أمام العرب من خيارات،فهم إما أن يوقفوا الحرب بوقف التطبيع مع العدو،فعلًا وسياسةً ومشاريع داعمة للشعب الفلسطيني،وإما أن يستمروا في صمتهم الباهت والمخادع والملتبس في الدعوة إلى السلمية،ولا شك في أنه لكل من الخيارين نتائجه وتداعياته ،وبخاصة بعد أن أُثقل العالم بالهم الفلسطيني،حقًا وعدالةً،وهذا ما كانت القمة العربية مثقلةً به أيضًا على النحو الذي جعلها تدرك مخاطر العدوان على الوجود العربي برمته. فإذا كان العدو في حربه عاجزًا عن تحقيق الانتصار،مع كل ما تظهّر له من عجز في المواجهة الإقليمية،فلا أقل من أن تستوعب القمم العربية التحولات الجديدة،بحيث تعي تمامًا أن التهديد بوقف التطبيع أضحى موقفًا من الماضي السحيق للترهل العربي،وبات المطلوب موقف استراتيجي يتلاءم والمعطيات الواقعية التي أفرزتها وقائع الحرب في غزة والإقليم..وهذا ما كان يفترض بالقمة العربية أن تستجيب له، ليكون لها الموقف المناسب إزاء ما آلت إليه الأحداث. فكل ما أعلنته القمة من قرارات وتوصيات لم يبلغ مستوى التحول الاستراتيجي في الموقف العربي،لعلمهم أن شيئًا مما دعوا إليه لن يتحقق،وأن تسارع الأحداث يمكن أن ندّعي أنه فوّت فرصة التطبيع نهائيًا وإلى الأبد،لما أظهرته غزة والمقاومة من فاعلية عربية وعالمية جعلت من القمم العربية معطىً ثانويًا في مسارات الأحداث،فما لم يدرك العرب تحولات الصراع في المنطقة والعالم،ويخرجوا بتقييمات جديدة في قراءة الواقع العربي والإسلامي،مع كل ما استجد من عوامل وتفاعلات سياسية وشعبية في العالم،فلن تعاد للعرب فرصة الوعي السياسي للتعبير عن الموقف الحق في مواجهة العدوان،ودعم الحق الفلسطيني.

كما أن ما يكابده العدو اليوم في حربه على غزة يجعله أكثر قلقًا على المستقبل.قلق يتجاوزأحلام التطبيع ليطال الوجود الصهيوني في فلسطين،فما بالنا بكل مشاريع التطبيع في المنطقة،وهي لم تعد مثار اهتمام طالما أن الخطر الوجودي بات محدقًا بالعدو من كل جهاته،وقد ظهّرت الأحداث كم كان هذا العدو محتاجًا للغرب في حمايته،وهذه هي الخدعة ذاتها التي انطلت على كثير من الحكام العرب،أنهم كانوا يسعون لتحصيل الردع،فإذا به يسقط في إسرائيل نفسها،فما تكون قيمة كل التحالفات ومسارات التطبيع إن لم تكن ضامنة للأمن والاستقرار، بما يؤدي إلى حماية الدور والموقع وفرص الاستثمار في الاقتصاد والسياسة.

لقد سقط مشروع التطبيع العربي بالترهل الصهيوني ذاته،وقبل أن تبتلعه مياه البحر الأحمر على وقع الردع الاستراتيجي لقوى المقاومة في المنطقة والعالم…والسلام.

 * رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى