بين كأس “الصبر المر” وكأس “السمّ الأكبر”: هستيريا نتنياهو وحرب العالم (محمد سيف الدين)
بقلم د. محمد سيف الدين – الحوار نيوز
فشلت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في قمع التمرد العالمي على الهيمنة من خلال حرب العقوبات.لم يعد أمامها سوى استخدام القوة العسكرية، أو استخدام وهج القوة العسكرية لإخضاع المتمردين.
وهذه الساحات الثلاث هي المرشحة لبدء الحرب الكبرى، وهنا يجري سباقٌ محموم مع الوقت، قبل أن تنفجر الأزمة المالية العالمية الكبرى وتتفكك أميركا من الداخل.
لذلك،فإن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة بعد 6 أسابيع هي مفصليةٌ للعالم، حيث لكل حزبٍ من الحزبين تفضيلٌ مختلف عن الآخر للساحة المختارة لخوض الصراع.
أولوية ترامب هي الصين الآن.
وأولوية هاريس ومن هم خلفها هي روسيا.
بينما يتسابق رجلان (نتنياهو وزيلنسكي) ويستميتان للنجاة من الداخل والخارج، من خلال خوض صراعٍ بطولي مع الأعداء، يخلطان فيه بين نجاتهما الشخصية ونجاة الدولة، على قاعدة لويس14: “أنا الدولة، والدولة أنا”.
لكن لماذا يمتلك نتنياهو المبادرة الآن؟
القاعدة الكبرى الآن هي أنه لا يمكن لأميركا أن تخسر واحدة من حروب الساحات الثلاث، وهي في أوكرانيا خاسرة حتى اللحظة. وفي تايوان خاسرة بحكم مرور الوقت واتجاه الصين نحو تجاوز الحد في سعيها إلى تحقيق “السيادة التكنولوجية”.
أما في الشرق الأوسط، فالأهداف الثلاثة التي وضعها نتنياهو في حرب الإبادة على غزة لم تتحقق بعد سنة من الصراع. والخطر بالنسبة إليه أنه دفع الرهان ولم يعد قادراً على التراجع من دون “نصرٍ كامل”. لذلك هرب إلى الأمام فأضاف هدفاً رابعاً هو إعادة سكان الشمال بالقوة.
لكن لماذا اختار القوة المباشرة، على الرغم من شبه إجماع على خطورتها؟
السبب هو أن الإدارة الاستراتيجية في المحور المقابل اختارت استنزاف إسرائيل، وهو الخيار الأكثر عقلانيةً في لحظة اختيار أميركا للساحة التي سوف تخاض فيها “حرب العالم”.
الهدف إضعاف إسرائيل من خلال الاستنزاف “الاستراتيجي”، وهنا يدخل البعد الاقتصادي وبعد العقد الاجتماعي بين المستوطنين وكيانهم، وهما عاملان حاسمان في التفكك.
حسناً: كيف تدير الساحات الثلاث خياراتها الآن؟
– روسيا تراهن جزئياً على وصول ترامب، وتتحضر في موازاة ذلك للحرب مع الناتو (تمارس الصبر الاستراتيجي أيضاً ولا تستخدم سوى جزء من قوتها في هذه المرحلة في أوكرانيا).
– الصين التي تعرف أنها الهدف الكبير عند الحزبين، تؤخر الصدام وتراوغ سياسياً وديبلوماسياً، بينما تتحضر للحصار البحري وحرب تخيير الدول بينها وبين الغرب.
– المحور بقيادة إيران يريد تجنب دفعه إلى افتتاح الحرب العالمية في منطقته وعلى حسابه، ولا يريد دفع فاتورة القوى العالمية المتمردة وحده، وهي فاتورةٌ بشرية مليونية. الخسائر الحالية القاسية والموجعة تفتدي ما يمكن أن تجلبه حربٌ موسعة كبرى. المحور ساهم بدهاء خلال الأشهر الماضية في تخريب علاقة نتنياهو مع الديموقراطيين، ويراهن على فوز هاريس لقلب الدينامية في المنطقة. وهو لا يريد المساهمة بإيصال ترامب من خلال إشعال حرب كبرى في لحظة اتخاذ أميركا خيارها الرئاسي، وبعده اختيارها ساحة الحرب.
-(ملاحظة: تصريح ترامب بالأمس يوضح لماذا لا يريد المحور تعزيز فرصه أمام هاريس، إذ قال: “أنا هنا اليوم لأخبر المجتمع الأميركي اليهودي أن هذا المد القبيح من التعصب والكراهية المؤيد لحماس والمعادي للسامية سيتم وقفه وسحقه، ابتداءً من ظهيرة 20 يناير 2025 ).
القوة التي سوف تتبرع (تضطر) لخوض المواجهة المباشرة مع أميركا ستدفع الثمن الأكبر من فاتورة الصراع الدولي (الاتحاد السوفياتي مثلاً دفع 23 مليون روح من أصل 30 من خسائر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ولولا إعلانه امتلاك الصلاح النووي لكان تعرض للضربة التالية بعد اليابان، وهذا ما أكدته الوثائق لاحقاً).
لكن هل كل ذلك يعني أن الضربات الإسرائيلية الهستيرية وجدوى الصبر الاستراتيجي سيؤديان إلى تراجع الحزب والمحور عن الإسناد والقبول بالحزام الأمني؟ وهل أفقدت الضربات الحزب قدراته وفرضت أمراً واقعاً يغير مسار الصراع؟
الأكيد أن الحزب لن يتراجع عن العنوان الكبير الذي أعلنه بربط جبهة الإسناد بوقف الحرب على غزة، والاستمرار بإبعاد المستوطنين عن الشمال. وتراجعه عن ذلك لن يفيد في إبعاد الخطر عنه وعن لبنان، بل إنه سيزيد من طلبات نتنياهو، تماماً كما حصل في المفاوضات في غزة. فكلما قبلت حماس ببند، اخترع بنداً آخر لإطالة الحرب وإعادة المحاولة لجر أميركا لخوص حرب النصر الكامل الذي يتصوره، والنجاة الكاملة التي يمنّي نفسه بها.
وفي موضوع البيجر، الخطر جداً على الأمن العالمي، والذي صعق الوعي العالمي، وتتابعه غرف تخطيط الأمن القومي، اختارت اسرائيل التبرع بريادة الأعمال القذرة التي تستخدم فيها التكنولوجيا كأداة قتل جماعي في البيئات المدنية والحضرية. وهي تستحق هذا الدور، وستلقى آثاره البعيدة التي ستكون كارثية على مشروعها.
ماذا عن القدرات بعد عمليات التفجير والاغتيال الكبرى؟
قدرة الحزب البشرية مؤلفة بحسب تقديرات منشورة من مصادر مختلفة من قرابة 150 ألف مقاتل، يضاف إليهم إمكانية تعبئة أعلى.
القدرات العسكرية هائلة، ويقدرها البعض بمليون صاروخ، منها عشرات الآلاف من الصواريخ الدقيقة، ومخزون كبير من الأسلحة المضادة للدروع، إلى جانب عشرات آلاف المسيّرات والطائرات الانقضاضية… وقوات خاصة وقوى تدخل، وقوتين بحرية وجوية غامضتين إلى حدٍ كبير، وإن كان كثير من الخبراء يتوقعون قدرات عالية محددة في هذا الشأن.
في البحر والبر والجو لدى الحزب قوة نارٍ مهيبة، لم يظهر منها الكثير بعد. قدرته على إطلاق 5000 صاروخ يومياً ليست موضع شك، وإذا ترافق ذلك مع اشتباك في جبهات أخرى فإن هذه القوة النارية ستكون كارثية على الكيان.
ثم إن طبيعة هذا الحزب منذ النشأة تسمح له بالتفكيك وإعادة التجميع في أي لحظة. يتفكك إلى مجموعاتٍ صغيرة، ثم يعود قوةً مركزية.
اغتيال القادة في هذه التجربة لاشك مؤثر ومهم، لكنه لا يغير المسار على الإطلاق، ولا يضعف القدرة. والجميع يعلمون ذلك في إسرائيل كما في واشنطن.
لكن الخطر الشديد والداهم على المقاومة الآن هو احتمال توفّر معلومات طازجة وحيّة عن اجتماع القادة بعد ساعاتٍ فقط من “عملية البيجر القذرة”.
كما أن الحزب في أيامٍ مثل هذه يحتاج بالضرورة إلى الثقة من جمهوره، لتخفيف الضغط عن كاهله في لحظة تجددٍ مفصلية، ولحظة تحولٍ في طبيعة الحرب.
كأس الصبر المرّ هذا بخسارة الأفراد تجرَّعَه قادة كثر عبر التاريخ، من أجل تجنب كأس السم الأكبر بخسارة إرادة الأمة (أو الدولة أو المملكة في السابق). ومعادن الناس تظهر في اللحظة مخيفة وحين تتلقى الضرب، لا في أوقات النشوة.
الأسابيع المقبلة ستقلب المشهد على الأرجح، وإذا لم تنته الحرب، سينتهي الصبر وتشتعل المنطقة، ثم ينهار الاقتصاد الدولي، ثم تتوسع الحرب العالمية.