بين بوابة المطار وبوابة التطبيع (زينب إسماعيل)

كتبت زينب اسماعيل – الحوارنيوز
شاب إسرائيلي يدخل لبنان، يصوّر في شوارع بيروت، وينشر مقاطع مصوّرة كما لو أن الحدود التي رُسمت بالدم والدمار لم تكن يوماً موجودة.
قد يقول البعض إنها حادثة فردية، مجرد خطأ في تدقيق أو مصادفة بيروقراطية.
لكن في بلدٍ مثل لبنان، لا شيء يُسمّى مصادفة حين يتعلّق الأمر بالأمن والسيادة.
المسألة ليست في هذا الشاب وحده، بل في الفكرة التي يحملها دخوله: أن يصبح “العدو” زائراً عادياً، وأن يتحوّل الخرق الأمني إلى حالة رمادية لا تُدين أحداً.
أن يقال إن “الجواز ليس إسرائيلياً”، وكأن المشكلة في الورقة لا في الانتماء.
لبنان، الذي لا يزال يعيش على حافة حرب، لا يحتمل هذا النوع من الغموض.
فكل ثغرة في مطار، وكل عبورٍ غير مبرَّر، هو رسالة اختبار. اختبار لقدرتنا على حماية أنفسنا، وعلى التمييز بين الانفتاح والتساهل، بين السيادة والتطبيع.
الصدمة الصامتة
الصمت الرسمي تجاه ما جرى كان صادماً بقدر الحادثة نفسها.
لم يصدر بيان واضح من الحكومة أو من الأجهزة الأمنية يشرح ما حصل أو يطمئن الرأي العام.
كأننا أمام مشهد يُراد له أن يمرّ بهدوء، كي لا يثير ضجة في لحظةٍ سياسية مشتعلة.
لكن الخطر لا يأتي من الضجة، بل من اللامبالاة.
حين يتحوّل الخرق إلى “تفصيل إداري”، يصبح الباب مفتوحاً لغيره.
وما يبدأ بفيديو على “إنستغرام”، قد ينتهي بمعلومات استخبارية، أو بتمهيدٍ نفسي لتقبّل فكرة أن وجود الإسرائيلي بيننا لم يعد خطراً.
بين الواقعية السياسية والوعي الشعبي
في الموازاة، هناك من يطرح في الداخل اللبناني فكرة “التفاوض المباشر” مع إسرائيل، بحجّة الواقعية السياسية، وبحجّة أن العالم تغيّر وأن الحروب لا تبني الأوطان.
وهناك من يردّ بأن أي تفاوض لا يمرّ عبر وساطة وضمانات هو تطبيع مجاني يُضعف موقع لبنان ويكسر توازنه الداخلي.
في الحقيقة، الخلاف ليس فقط حول طريقة التفاوض، بل حول هوية الدولة نفسها.
هل نحن دولة محايدة تحاول التعايش مع الجميع؟
أم نحن بلد يحمل ذاكرة مقاومة لا يمكن محوها بسهولة تحت عنوان “الانفتاح”؟
المشكلة أن الحالتين تذوبان اليوم في ضباب سياسي كثيف.
فلبنان الذي يطالب بسيادته على كل شبر من أرضه، يسمح أحياناً بثغرات صغيرة تُفرّغ السيادة من معناها.
كيف نرفع شعار “لا للتطبيع” فيما يُمكن أن يدخل شخص من عدوّ معلن عبر المطار، ويغادر كما لو أنه زار مدينة أوروبية؟
التطبيع الناعم
التطبيع لا يبدأ من اتفاق سلام رسمي، بل من لحظة قبول غير معلنة.
من تساهل بسيط، من عبورٍ غير محسوب، من تبريرٍ إداري، أو من مقالٍ يُبرّر الواقعية باسم “المستقبل”.
هو عملية نفسية قبل أن تكون سياسية.
حين نرى “الآخر” بيننا ولا نشعر بالغرابة، حين نقرأ خبر دخوله فنقول “عادي، يحمل جنسية أخرى”، حين نبرّر بدلاً من أن نسأل, عندها نكون قد بدأنا التطبيع من حيث لا ندري.
إنّ الخطر الأكبر ليس أن يدخل إسرائيلي إلى بيروت، بل أن يدخل إحساس التطبيع إلى وعينا الجماعي.
أن نرى ما لا يُرى، ولا نحسّ أن شيئاً تغيّر.
السيادة لا تُختزل بالشعارات
لبنان اليوم أمام مرحلة دقيقة، حيث تتقاطع الانقسامات الداخلية مع التهديدات الخارجية.
الاقتصاد منهار، والسياسة متصدعة، والأمن هشّ، والخطاب العام مشتّت بين “الانفتاح” و”الممانعة”.
وفي ظل هذا المشهد، تسهُل اختراقات من النوع الذي رأيناه، أفراد، كاميرات، أو حتى أفكار.
السيادة لا تُصان بالخطب، بل بالتدقيق.
ولا تُحمى بالشعارات، بل بالمساءلة اليومية لكل جهاز ومؤسسة.
من المطار تبدأ السيادة، ومن مطار بيروت تحديداً، لأنها البوابة التي يدخل منها العالم إلى لبنان, أو العدو متخفياً في وجه العالم.
قد تكون الحادثة فردية، لكنها ليست بريئة.
فالأمن ليس في التفاصيل الصغيرة، بل في من يراها صغيرة.
اليوم المطلوب ليس فقط منع دخول إسرائيلي بجواز أجنبي، بل منع دخول الفكرة التي تبرّر ذلك.
أن نعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، لا على مستوى الخطابات، بل على مستوى الإجراءات.
ففي بلدٍ يقترب كل يوم من خط النار، لا نملك رفاهية التغاضي.
ولا نملك ترف “التطبيع الهادئ” بينما الخطر يطلّ من كل جهة.
لبنان لا يُحافَظ عليه بالحياد، بل باليقظة.
والسيادة لا تُقاس بعدد الخطب، بل بعدد العيون المفتوحة على المطار.



