بين العملاء والمبعدين… تكمن القضية
من البديهي في كل دولة أن يتمّ التعامل مع الخونة بطريقة حازمة قاسية لا تقبل أية مناطق رمادية يشوبها التردد، خصوصاً مع من شاركوا بالقتل والتعذيب والتدمير، والأمثلة كثيرة في البال ولا داعي لذكرها. وعند الحديث عن لبنان وما عاناه من الكيان الصهيوني منذ احتلاله فلسطين، فإن للأمر منحىً مختلفاً. وللأسف فإن هذه القضية في لبنان، كغيرها من القضايا، لا تلقى إجماعاً عند السياسيين ومن هم تبع لهم من الشعب اللبناني، في موقع هؤلاء العملاء (المبعدين كما يحلو ظلماً للبعض تسميتهم) وعنوان تواجدهم في فلسطين المحتلة، وكيفية معالجة أزمتهم.
والجدير بالذكر أن هؤلاء قد عايشوا الجيش الإسرائيلي سنوات طوالاً عند احتلاله لبنان، ثم عاشوا في كنفه منذ اندحاره عشرين عاماً. ولا ننسى أن لهؤلاء أطفالاً فرّوا معه، بالإضافة إلى من وُلد في هذه المدة وصار الكيان الصهيوني له وطناً وأرضاً وشعباً، فضلاً عن الجنسية التي حملها والتجنيد العسكري الذي خاضه. فعن أي المبعدين نتحدث؟ وأية قضية إنسانية يريد البعض إلباسها باسم هؤلاء الناس؟ وكيف يمكن لهؤلاء أن يندمجوا مع البيئة التي كل ما في وجدانها يصرخ عداوة وبغضاً للكيان الغاصب؟ وهل يمكن الثقة بهم إن عادوا، واستبعاد عمالتهم؟ ولا بد من عدم تجاهل الحقيقة الصارخة في هذا الموضوع الشائك: وهو أن هؤلاء العملاء لا ينتمون إلى مذهب أو طائفة دون غيرها ولو حاول البعض إظهار عكس ذلك.
إن قانون العفو العام لا يُختصر بالفارين إلى إسرائيل، ولا يمكن اعتبار هذه القضية غير عادلة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسجناء في لبنان الذين لم يخوضوا في حروب ضد الناس والجيش، أو لم يدمّروا المجتمع بتجارة المخدرات. لكن القضايا المختلفة في لبنان تخضع للمناخات السياسية الطائفية، ومكاسب يسعى لها الأحزاب باسم الإنسانية والوطنية والطائفة والمذهب. ولذلك يجب معالجة هذا القانون ضمن أطر محددة وتجزئته إلى عدة بنود لكل منها طرحه الخاص وحيثيته المختلفة كيلا يختلط العادل منها بالظالم والمحق بالفاسد.
وعلى كل حال، فإن طرح قضية العملاء في هذا الوقت بالذات، كما قضايا الحدود بين لبنان وسوريا، ولاسا وسلعاتا، لهو أمر يدعو للريبة، حيث كل ملف يعتبر خلافياً (من حيث وجهة نظر حامله على الأقل) يدعو إلى التفرقة والاشتباك والمشاحنات السياسية التي كثيراً ما تكون رخيصة بشعة، بين وجهاء الأحزاب السياسية، في زمن كل ما في بلدنا يرزح تحت المعاناة، وقد بات أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، ولا آمال مبشرة بحل قريب، ووباء كورونا يزيد الأمور الاقتصادية والمالية سوءاً وتعقيداً. فهل على هذا الشعب الممزّق أن يعيش باستمرار حروباً صغيرة لا تنتهي، وصراعات حادة بين المسؤولين على مسائل كثيراً ما تكون جانبية؟ وهل المطلوب إشغال الناس في لبنان وما حوله، بأزمات داخلية فرعية لكي تُمرر قضايا كبيرة خارجية، كما في صفقة القرن الناشطة حالياً، ومشروع قيصر في سوريا، وداخلية متّصلة بها، كما في توطين الفلسطينيين في لبنان، واستغلال التواجد السوري فيه؟
وأخيراً، فإن قضية العملاء في فلسطين المحتلة، على رغم من استغلالها السياسي الرخيص، لا يمكن معالجتها ضمن قانون واحد وعلاج واحد، فإنها لا تُختصر بلبنانيين مبعدين حنُّوا فجأة إلى أرض الوطن واستنجدوا بمن تلبي قضيتهم مصلحته السياسية والفئوية والشخصية، بل إنها حكاية تاريخ كُتبت حروفه على صفحات الوجدان اللبناني بمداد الدماء والدموع والمعاناة، ولا يمكن لأي كان، مهما بلغ شأنه في السياسة اللبنانية وصناعة القرار أن يحاول إزالة هذا التاريخ ومحو حروفه، فالجروح لمّا تزل نابضة، والآلام لمّا تستكن، وأرواح الشهداء تطوف فوق الرمال التي بذلوا كل شيء لأجلها. فحذارِ العبث بوجدان المعذبين…