بين الدستور اللبناني والضغوط الدولية: إلى أين يقود نواف سلام البلاد؟ (أسامة مشيمش)

بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

في خضمّ مشهد إقليمي بالغ التعقيد، وفي ظل ضغوط دولية متصاعدة، يعود لبنان مجددًا إلى واجهة الاشتباك السياسي بين مفاهيم السيادة، ومتطلبات “الواقعية” التي تفرضها التحالفات والتموضعات الدولية.
وتحديدًا مع تبني رئيس الحكومة القاضي نواف سلام جدول أعمال يتقاطع في بعض نقاطه مع الطروحات الأميركية – المعروفة إعلاميًا بـ “ورقة توم براك” – دون أن يرفضها أو يتبرأ منها، في حين كان الطرف الإسرائيلي هو من أعلن رفضه العلني لها، تنفتح الأسئلة على احتمالات داخلية وخارجية تتجاوز مضمون الورقة إلى دلالاتها وخلفياتها.
قراءة دستورية أولاً
لا بد من التذكير، أن الدستور اللبناني لا يترك مجالًا للتأويل في توصيف العدو الإسرائيلي، حيث يشير بشكل واضح إلى أن لبنان “ملتزم بتحرير أرضه والدفاع عن سيادته”، وهو ما يتقاطع مع الواقع السياسي الذي يُصنّف إسرائيل كعدو، نتيجة عقود من الاعتداءات والاحتلال والانتهاكات.
وبالتالي، فإن أي خطاب أو تحرك سياسي رسمي، يظهر بمظهر التواطؤ أو التغاضي عن هذه الحقيقة الدستورية، ليس فقط يثير الشبهات، بل يُعد خروجًا عن العقد الاجتماعي والسياسي الذي يربط بين الدولة ومواطنيها.
واقعية أم انحراف سياسي؟
يرى البعض أن ما يقوم به الرئيس نواف سلام هو سعي متوازن لإرضاء الأطراف الدولية المؤثرة، وخصوصًا الولايات المتحدة، التي طرحت من خلال مستشارين وشخصيات قريبة منها “ورقة توم براك” كإطار لمقاربة الحلول في لبنان. هذا التوجه – وفق المدافعين عنه – لا يعني التنازل عن الثوابت، بل محاولة “إيجاد مكان للبنان” على طاولة تفاوض إقليمي يُعاد فيها رسم خارطة النفوذ.
إلا أن المعضلة تكمن في التوقيت والسياق. فالورقة نفسها، رغم أنها لم تُرفض رسميًا من رئيس الحكومة، إلا أن الطرف الإسرائيلي – وعلى نحو مفاجئ – هو من رفضها، رغم ما تتضمنه من بنود قد تكون في صالحه. وهذا ما يفتح الباب أمام تحليل مقلق: هل رُفضت الورقة لأنها لم تكن كافية من وجهة نظر إسرائيل؟ وهل يتم الضغط على لبنان لتقديم المزيد من التنازلات السياسية والأمنية والاقتصادية؟
من الخصومة إلى العداء مع المقاومة؟
التحوّل اللافت في مواقف بعض الأطراف اللبنانية، ومنهم رئيس الحكومة الحالي، يتمثل في ما يشبه الانتقال من موقع “الخصومة السياسية” مع خيار المقاومة، إلى موقع “العداء الصريح”، أو على الأقل “التنصل الرمزي” منها. هذا الانزياح في الخطاب السياسي لا يمكن عزله عن نتائج الحرب الأخيرة التي استمرت 66 يومًا في عام 2024، والتي أعادت خلط الأوراق بين محور المقاومة وإسرائيل، وأظهرت أن معادلات الردع لا تزال حاضرة بقوة.
في هذا الإطار، فإن الإصرار على تحييد لبنان عن أي صراع في المنطقة، وإن بدا مطلبًا منطقيًا، إلا أنه لا يمكن أن يتحقق إلا بشروط واقعية، تحفظ سيادة لبنان، وتُبقي على قدرة الردع، لا أن تنزع سلاحًا دون ضمانات، أو أن تُدخل البلاد في دوامة فراغ أمني مقابل وعود إنمائية وهمية.
الكرامة الوطنية ليست ورقة تفاوض
قد تكون للبعض طموحات دولية، سواء عبر مقاعد أممية أو أدوار ديبلوماسية كبرى، وهذا مشروع لأي شخصية سياسية. لكن حين يتحوّل الطموح إلى مدخل للتساهل في المبادئ الوطنية، فإن الخط الفاصل بين الديبلوماسية والضعف يصبح شفافًا وخطيرًا. فأن تكون رئيسًا لحكومة في بلد يعيش أزمة هوية ووجود، يعني أن تكون صوتًا لمواطنيك، لا مرسالًا لمصالح الآخرين.
الكرامة الوطنية ليست ورقة تفاوض، ولا سلعة تُسوّق في المؤتمرات، بل هي جوهر الشرعية الحقيقية التي تستمدها الدولة من شعبها، لا من مقرات الأمم المتحدة.
خاتمة
لبنان اليوم في مفترق طرق. لا يستطيع أن يستمر في سياسة الانكار أو الغموض البنّاء. ولا يمكن لرئيس حكومته أن يتصرف وكأن الملفات المصيرية تُحلّ بالتفاهمات الفردية أو التنازلات غير المعلنة. المطلوب خطاب صريح، وموقف دستوري واضح، يُحدد بجرأة موقع لبنان: هل هو في قلب الدفاع عن سيادته، أم في مقاعد الانتظار؟
وإلى حين توضيح الرؤية، سيبقى اللبنانيون يتساءلون: من يحكم باسمهم؟ ومن يفاوض باسمهم؟ وهل فعلاً من يُفكر بالكرسي الأممي، قادر على حمل همّ وطن جريح؟



