بين أربعين محمد عفيف وأربعين السيد نصرالله.. حكاية (ناجي أمهز)
بقلم ناجي أمهز
الشهيد السيد نصرالله، ذلك الرجل الذي كان غريبًا عنا بمعنى الجسد، قريبًا بمعنى الروح. قلة فقط التقوه، استمعوا إلى كلماته من قرب، وشعروا بطيفه وهو يلامس أرواحهم المثقلة بجحيم الحياة وصراع الحق والباطل. تلك اللحظات معه كانت أشبه بغمس أرواحهم في نور محبته، ليحوّلهم إلى فرسان المعركة على الأرض وإلى الملائكة في السماء.
الشهيد نصرالله صنع أمة لا تُهزم، وكيف تُهزم وانتصارها انتصار، واستشهادها انتصار.
قلة هم من اقتربوا من الشهيد القائد السيد نصرالله، عانقوه، قبّلوا يده، واستنشقوا عبق حبه وعشقه واستلهموا من أفكاره. كانوا شهودًا على كرمه، شجاعته، وحلمه الذي طال حتى المسيئين.
نصرالله لم يكن فقط قائدًا؛ كان فيلسوفًا فهم أسرار المجد والخلود. ابنه شهيد، صديقه شهيد، رفيقه شهيد، ومريده شهيد. المجد لا يكون إلا للثائرين الأقوياء في نفوسهم. هذه الروح الثورية بدأت مع الثائر الأول يسوع، الذي أعلن ثورته على التجار والكتبة الفريسيين، وكانت نهايته الجلد والصلب. وهكذا كانت نهاية الحسين بن علي، وكل ثائر ستكون نهايته كنهاية يسوع. أتباع يسوع الناصري في مسيرة الثورة لا يموتون أبدًا.
كثيرون أحبوا الشهيد السيد نصرالله حتى الجنون، وآخرون قدّسوه، حتى أن أعداءه احترموه وصدقوه. لكن قلّة هم الذين شعروا أن نصرالله هو حياتهم، هو مهجة أرواحهم ونبض قلوبهم. هؤلاء الذين هتفوا من أعماق وجدانهم: “لبيك يا نصرالله”. قبضاتهم كانت مرفوعة، رؤوسهم شامخة، وكرامتهم تحلق في سماء العز والفخار.
صوته القوي كان أشبه بنايٍ يعزف موسيقى الآلهة في آذان مريديه ومحبيه. كلماته كانت تمتزج بعدالة علي بن أبي طالب وحنين الحسين في عاشورائه الأخير عندما هتف: “هل من ناصر ينصرنا؟”. وكان نصرالله ومن معه الفئة التي أنصتت بأعمق جوارحها إلى أثير كلمات الحسين عبر التاريخ.
لقد أدركوا أن غزة ستصبح كربلاء أخرى، وأن عاشوراء سيعاد في كل معركة. هؤلاء الذين تخلوا عن الحسين قبل أكثر من 1400 عام هم أنفسهم الذين نراهم في هذا الزمن.
حقيقة السيد نصرالله لم يكن بيننا. عقله وروحه وصوته كانت قادمة من زمن الحسين. لم يكن يمكنه أن يعانق أحفاده وأطفال غزة يُقتلون. لم يكن يمكنه إقامة الصلاة بينما المساجد والكنائس تُدمَّر في غزة. عندما كان يرتل القرآن، كانت مشاهد أعداء الإنسانية وهي تمزق المصاحف تستحضر أمامه.
كان يعلم أنه سيُستشهد، كما كان الحسين يعلم، وكما كان يسوع يعلم. لكنه استمر في مواصلة دربه الذي رسمه الله ولمن معه. الموت للأبطال في ساحات المعارك ليس سوى بوابة عبور إلى السلام الأبدي. الروح الثائرة لا تستكين للظلم ولا ترضخ له.
نصرالله لم يكن يخشى القبر؛ كان يبحث عن وطن سيد حر مستقل. فالأوطان المهددة ليست إلا مقابر جماعية يعيش فيها الأموات بين الأمم.
كل ما نقوله عن الشهيد السيد نصرالله، وما أكتبه أنا شخصيًا، لم يكن بالإمكان كتابته، لو لم ألتقِ بأناس عاشوا عن قرب الشهيد السيد نصرالله. فالتلفاز والأثير لا ينتجان ذاك الفيض الروحي في النفس.
من يريد أن يعرف عما أتحدث، فليشاهد فيلم (Silence) عن رواية «صمت» (1966) لمؤلفها الياباني إندو شوساكو، والتي بدورها تقوم على أحداث حقيقية. الأب كريستوفاو فيريرا، بطل الفيلم والرواية، عاش فعلاً بين 1580 و1650.
فحوى الرواية عن اضطهاد أتباع المسيح في اليابان. عندما يجتمع زعيم المنطقة مع الأب بعد اعتقاله وتعذيبه، يجلس الزعيم مع الأب ويحدثه بكل هدوء. وبينما الأب ينظر إلى أتباعه وهم ينزفون حتى الموت، يسأله الزعيم الياباني: أنت لم تشاهد يسوع. أنت اتبعت شخصًا كان هو يسوع وتعلمت منه كيف تكون يسوع، وأنت بدورك تحولت إلى يسوع، وهؤلاء لم يشاهدوا الأب الذي علمك أن تكون يسوع، بل شاهدوك أنت، ومن خلالك شاهدوا يسوع.
وهكذا كان الشهيد الحاج محمد عفيف، الذي كان يجسد شخصية نصرالله، ونصرالله كان يجسد شخصية الحسين بن علي، والحسين بن علي كان يجسد شخصية يسوع.
لولا الحاج عفيف، لما عرفت الشهيد نصرالله. وكي يكون الشهيد محمد عفيف انعكاسًا روحيًا وجسديًا للسيد نصرالله، سار على دربه إلى آخر أيام حياته.
الحاج محمد عفيف، الرجل الذي عاش بروح السيد نصرالله. كان يستصبح بصوت أحب الناس إلى قلبه، بكل أمانة وصدق يعمل على أن يكون السيد نصرالله في روح وعقل كل من يقابله. وهكذا كان صوت نصرالله يصل إلى القلوب عبر الحاج عفيف.
عندما استشهد الحاج محمد عفيف، هزت صورته أركان ووجدان الكثيرين. باستشهاده، أحيا الشهيد السيد نصرالله بين النخب، وكأن الرجلين كانا وجهين لروح واحدة.
استشهاد الحاج عفيف أبكى الكثيرين من صناع التغيير، ربما لهذا السبب، رفضت ذكرى الحاج محمد عفيف أن تموت. فقد كان محاطًا بمن يمكنهم كتابة التاريخ وصناعة المجد.
كل عظماء التاريخ كان حولهم من يحمل أقلامًا تنسج الكلمات من شعاع الشمس، وترسم الصور من جمال الطبيعة، وتخلد سيرتهم من ملاحمهم العظيمة. كذلك كان الحاج عفيف مع السيد نصرالله.
حكاية الحاج محمد عفيف مع السيد نصرالله ليست مجرد قصة صداقة، بل هي نموذج للتفاني والإخلاص. صداقة الحاج عفيف للسيد كانت بصوت القلب، حيث كان الغياب أقرب من الحضور. لذلك، لم يستطع الحاج عفيف أن يعيش طويلًا بعيدًا عن روح السيد، فقرر أن يرفع صوته: “لبيك يا نصرالله”، حتى جاء اللقاء.
حتماً اليوم، الحاج محمد عفيف الذي تحدث عن ذاك الحلم الذي رأى فيه السيد نصرالله يسأله عن حاله، وعن سبب إهماله لنفسه. ربما كان الشهيد نصرالله هو الحزين على فراق صديقه. ولكن، في النهاية، التقيا في مكان لا يفترقان فيه إلى الأبد.
بالختام، عندما تريد أن تخلد، عليك أن تجلس مع من ينقل مآثرك إلى الناس، لا أن تعيش مع أبواقٍ ثمنها بخسٌ دراهم معدودة. فالأبواق الصدئة إن كانت ضدك خيرٌ ألف مرة من أن تكون معك، لأن صوتها نشاز. مياه الوضوء يجب أن تكون صافية، والصفاء لا يصنعه على مر التاريخ الكتبة الفريسيون.
هكذا تعلمت من يسوع كيف أصبح أمةً من خلال رسله الإثني عشر، ومن الحسين بن علي من خلال 72 مشهدًا من التفاني حتى الرمق الأخير.
أنقذوا صورة الشهيد نصرالله، وتاريخ وتضحيات الشهيد نصرالله ورُسله، من الأبواق التي تتحدث باسمه.
دعونا نبني جيلا مثقفا صادقا شفافا، يعكس هذه المعاني العظيمة ويحفظ هذا الارث الخالد على مرور السنوات للاجيال القادمة.
فلا يجوز مزج الخير والجمال بالكذب والنفاق لانه يفقد حقيقته وجوهره.