الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب محمد عبد الكريم أحمد في الاخبار يقول:
مرّ يوم أوّل من أمس على النيجر، وسط حالة من الترقّب، فرضتها نهاية المهلة غير التقليدية التي أعطتها قمّة «الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إكواس) لقادة الانقلاب، لإعادة الرئيس المعزول، محمد بازوم، إلى منصبه، والتراجع عن الاستئثار بالسلطة. وفيما تصدّرت عناوين نهاية المهلة، وما سيليها من تدخُّل عسكري محتمل من قِبَل قوات المجموعة، أو تمديد «فرصة الحلّ السلمي»، واجهة المشهد، بدت لافتة مشاركة عشرات آلاف النيجريين في تجمّع في العاصمة نيامي، دعماً للانقلاب في مواجهة تهديدات «إكواس» بالتدخّل العسكري، وإدانة ما سمّوها «النوايا الإمبريالية» لفرنسا تجاه بلادهم.
ما بعد مهلة «إكواس»: فتح أبواب جهنّم في الساحل؟
بدت مواقف باريس وواشنطن الداعمة بقوّة، وبتفويض غير مشروط، لقمّة «إكواس» المعنيّة بأزمة النيجر، بمثابة توكيل غربي لقادة المجموعة الكبار (نيجيريا، غانا، والسنغال تحديداً) بالتدخّل العسكري لتسوية الأزمة. وهكذا، نحت فرنسا، التي أعلنت النيجر قطع علاقاتها الديبلوماسية معها إلى جانب الولايات المتحدة ونيجيريا وتوغو، نحو سياسة إنكار الأمر الواقع، معلنةً، في الرابع من الجاري، رفْضها سحْب قواتها من هذا البلد، بدعوى أن «الإطار القانوني لتعاونها مع النيجر في مجال الدفاع، قائم على اتّفاقات عُقدت مع سلطات النيجر الشرعية». ويشير هذا الموقف، والكاشف عن تراجع الديبلوماسية الفرنسية في أفريقيا إلى مستويات دنيا، إلى احتفاظ باريس بورقة التدخّل العسكري المباشر لرعاية مصالحها في النيجر وإقليم الساحل عامّةً.
ومع إكمال قادة «إكواس» (4 آب) وضع خطّة للتدخّل في النيجر، وحثّهم جيوش الدول الأعضاء على توفير الموارد اللازمة للتحرّك «عقب توقّف المفاوضات مع المجلس العسكري»، يبدو أن الأمور تتّجه نحو التصعيد، بصرف النظر عن التكاليف الباهظة للعملية المرتقبة، والتي أَعلن مبعوث «إكواس» للشؤون السياسية والسلم والأمن، عبد الفتاح موسى، عن اكتمال كل عناصرها، بما في ذلك «التوقيت والموارد المطلوبة وكيفيّة وموقع ووقت نشر مثل هذه القوّة». وتحسُّباً لهذه التهديدات الجدّية، أعلن «المجلس العسكري» الحاكم في النيجر (مساء 6 آب)، قراره إغلاق المجال الجوي للبلاد، فيما تحدّث ممثّل عنه عن انتشار مسبق لقوات «إكواس» في بلدَين من بلدان وسط أفريقيا، استعداداً للتدخّل العسكري، في إشارة على ما يبدو إلى رواندا التي سبق أن أرسلت بالفعل قوات عسكرية إلى بنين المجاورة، قوامها نحو ألف جندي، بناءً على طلب الأخيرة لمواجهة تهديدات داخلية.
ويمكن استشراف إقدام «إكواس»، مدعومةً بقوّة قتالية متطوّرة من رواندا في الغالب – بحسب تلميحات «المجلس العسكري» -، وغطاء جوّي من القوات الغربية، على عملية خاطفة في الأيام القليلة المقبلة في جنوب النيجر (حيث تقع نيامي على بعد نحو 300 كيلومتر فقط من شمال بنين وشمال غرب نيجيريا التي تمتدّ حدودها مع النيجر على مساحة تتجاوز الـ 1500 كيلومتر) لا تستهدف الحسم في المقام الأول، بقدر ما تروم خلْق واقع جديد يبطّئ مسار الانقلاب، ويكرّس (مرحليّاً على الأقلّ) خلْق أزمة أمنية مزمنة تستنزف على مدى أبعد هذا المسار بالكامل، ولا تكترث للتصعيد السلبي الذي قد يَنتج من سيناريو كهذا في إقليم الساحل وأطرافه، سواء في شمال أفريقيا أو دول غرب القارة.
النيجر والورقة الروسية
تصدّر الدور الروسي المحتمل في دعم انقلاب النيجر، مشهد الأزمة الراهنة، على رغم الفتور الواضح في تعليقات الكرملين والحكومة الروسية إزاءها. ورأت موسكو، في موقف مبدئي، أن «التدخّل الأجنبي لن يحلّ الأزمة»، محذّرة من أيّ تدخّل من هذا القبيل، بعدما دعت في أكثر من مناسية إلى العمل على تهدئة الأوضاع في هذا البلد. لكن توقيت الانقلاب عشية قمّة روسيا – أفريقيا، والتقارير الغربية المكثّفة حول زيارة الجنرال النيجري ساليفو مودي لمالي وتواصله هناك «مع أحد مسؤولي فاغنر» طلباً لدعم المجموعة الروسية لنيامي في الفترة المقبلة، قدَّم رسائل مضطربة حول «تورّط روسيا» في الانقلاب.
طالت سياسات فرنسا الأفريقية في السنوات الأخيرة، اتّهاماتٌ بالعشوائية والجنوح إلى تكريس الوضع القائم
ويمثّل الاقتراب الروسي من النيجر، التي تضمّ عدداً من أكبر القواعد الأميركية والغربية في القارة الأفريقية، هاجساً رئيساً، وبأبعاد «مكارثية» واضحة للقوى الغربية، بعد نجاح موسكو الملموس في توطيد العلاقات مع دول في غرب أفريقيا، أبرزها مالي وبوركينا فاسو وغينيا. وعلى رغم اللهجة الأميركية المتشدّدة إزاء تسوية الأزمة في النيجر، ثمّة بوادر أوّلية إلى وجود بدائل لواشنطن غير التدخّل العسكري. فبعد تواصل القيادة العسكرية الأميركية مع قادة الانقلاب في نيامي، منذ الساعات الأولى لوقوعه، أعلن أحد الناطقين باسم مجلس الأمن القومي الأميركي («نيوزويك»، 6 آب) أنه، وعلى رغم إشارة «إكواس» المعلَنة إلى التدخّل كخيار أخير، «(أنّنا) نركّز على التوصّل إلى حلّ ديبلوماسي، ونحن على اتصال وثيق بقيادة إكواس»، في موازاة زيارة قام بها نائب مستشار الأمن القومي، جون فينر، إلى الغابون ونيجيريا (2 الجاري) للتباحث في سبل هذا الحلّ.
وتبدو حظوظ حضور روسيا في النيجر وافرة بشكل كبير لعدّة اعتبارات، أهمّها توقّع وجود تنسيق مسبق بين موسكو وقادة الجيش النيجري، سواء بشكل مباشر أو عبر حكومتَي مالي وبوركينا فاسو، وتمتُّع هذا الحضور بحاضنة شعبية نيجرية – غير معلومة الحدود – تمثّلت بعض معالمها في رفع الأعلام الروسية خلال التظاهرات الأخيرة، جنباً إلى جنب مع أعلام النيجر والشعارات المناهضة لفرنسا على نحو غير مسبوق. وفي هذا الإطار، يَبرز الدور المرتقب لـ«فاغنر» في حماية المصالح التعدينية للعديد من الشركات والدول العاملة في البلاد، وفي مقدّمها الصين التي عادت إلى قطاع التعدين في النيجر بعد توقّف دام عقداً كاملاً.
فرنسا والبحث عن الزمن الضائع
طالت سياسات فرنسا الأفريقية في السنوات الأخيرة، اتّهاماتٌ بالعشوائية والجنوح إلى تكريس الوضع القائم، وباعتبار القارة (ولا سيما دول مستعمرات فرنسا السابقة) ساحة خلفية تقليدية لباريس وحلفائها، إضافة إلى سمة أصيلة في سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون تجاه أفريقيا، عنوانها تقديم مصالح الشركات الفرنسية في قطاعات الطاقة والتعدين والاتصالات. مغ ذلك، تحدّث مراقبون عن تراجع أولوية القارة السمراء لدى باريس، كما اتّضح تراجع مستوى الكوادر التي تدير هذه السياسات في الخارجية الفرنسية بشكل واضح، مقارنة بأقرانهم في «إدارات أخرى». ويمكن تلمُّس هذا الاضطراب في بيان الإليزيه عقب الانقلاب، إذ لم يكن موفّقاً بنصّه على «عدم تسامح» فرنسا مع أيّ هجوم ضدّها ومصالحها (في النيجر)، وأنه إذا أصيب «أيّ فرد»، فإنّ «الانتقام سيكون فوريّاً»، ما أعاد إلى الأذهان – بحسب قراءات متنوّعة للبيان – شكل «السيد الإمبريالي» الذي يصدر تحذيرات حادّة لسكان «مستعمرة» تبعد آلاف الأميال عن «المتروبول».
كذلك، ظهرت هذه النظرة في تعليقات وزيرة الخارجية، كاثرين كولونا (5 آب)، التي تحدّثت عن جدّية التهديد الإقليمي باستخدام القوّة (ضدّ النيجر)، بالتأكيد أن «الانقلابات لم تَعُد ملائمة. لقد حان الوقت لوضع نهاية لها»، على رغم أن باريس تظلّ الداعم الأكبر لسلسلة من الانقلابات العسكرية والدستورية في غرب أفريقيا والساحل، وآخرها تقلُّد محمد إدريس ديبي السلطة في تشاد، من دون أسس تشريعية واضحة، وبدعم شخصي من ماكرون الذي حضر مراسم تنصيبه. ويعني التناقض في تصريحات كولونا، حيرة وارتباكاً فرنسيَّين متصاعدَين في مواجهة رفض شعبي كبير ومتنامٍ منذ سنوات بالفعل ضدّ إرث باريس الاستعماري واستمراره كأداة لنهب ثروات الدول الأفريقية وتكريس تخلّفها بتيسير واضح من نخب الأخيرة الحاكمة، وكذا عجز فرنسا المزمن عن تبنّي سياسات أفريقية متوازنة ومعبّرة عن شراكة بين دول «على قدم المساواة». وعند قراءة ردّ الفعل الفرنسي المتوتّر تجاه انقلاب النيجر، لا يَظهر في الأفق أن باريس تسعى إلى إعادة ضبط علاقاتها الأفريقية كون الصيغة الحالية، التي تواجه راهناً رفضاً شعبيّاً أفريقيّاً غير مسبوق منذ عقد الستينيات الماضي، هي «المثلى والمضمونة».
ماذا بعد؟
بالنظر إلى ضعف بنية جيوش «إكواس» (يصل عديد قوات دولة بنين على سبيل المثال إلى نحو خمسة آلاف جندي فقط، وتحلّ مع سيراليون وليبيريا والسنغال في المراتب الأخيرة في قوّة الجيوش الأفريقية، بحسب «غلوبال فايرباور»)، باستثناء نيجيريا (رابع أقوى الجيوش الأفريقية)، يُتوقّع أن تقود الأخيرة عمليّاً أيّ تدخل لـ«إكواس» في النيجر. لكن اصطفاف بوركينا فاسو ومالي وراء نيامي، واحتمالات تحصّل الأخيرة على دعم روسي، سيقود حتماً إلى تدهور الأوضاع في الإقليم بأكمله، وخلْق أزمة مزمنة جديدة تضاف إلى حزمة أزماته، غير أنها تتّسم بوجود تدخّل عسكري خارجي لن يقود إلّا إلى إطالة الأزمة وتغذية معضلات أخرى مثل العنف والإرهاب وتراجع مؤشرات التنمية البشرية، ويقوّض في المحصلة فكرة العمل الجماعي الأفريقي الفرعي في غرب أفريقيا، على رغم المكاسب المؤقتة التي ستتحصّل عليها نيجيريا من قيادة التدخّل العسكري في النيجر.