بناء الدولة لبقاء لبنان(أنطونيو أبو كسم)
أنطونيو أبو كسم* – الحوارنيوز
بعد انهيار الدولة اللبنانية، إثر الأزمة المالية والأزمة السياسية وتعطّل مؤسساتها، فقدت الدولة مكوّناتها الأساسيّة، مصداقيتها وهيبتها. إنّ الدولة بحاجة لأن تُبنى من جديدٍ على أسسٍ صحيحة وليس على شعارات سياديّة وشعبويّة رنّانة. وقد أظهرت التجربة السياسية لمطلقيها أنّها لم تتعدَّ الحملة السياسية لكي لا نقول ذرّ الرماد في العيون. شعارات الحريّة والسيادة والاستقلال، وشعارات مكافحة الفساد ودولة القانون والمؤسسات والجيش والشعب والمقاومة ولبنان أولاً، كلّها لم تؤدِّ إلى بناء الدولة. وبالطبع، لا يمكن الشكّ بنوايا كلّ الطبقة السياسيّة، لكنّ الموضوع يتطلّب إرادة حرّة منزّهة عن المصالح السياسيّة والمذهبيّة والماليّة.
كما لا يمكن الجمع بين مصالح أهل الحكم وبين مصلحة الدولة العليا ولا يمكن نهب الدولة بحجّة توسيع نشاط الحزب ليستطيع توسيع حضوره في الدولة ومن بعدها يحاول تحقيق شعاراته. ولا يمكن تطبيق الغاية تبرّر الوسيلة في موضوع بناء الدولة. ولا يمكن تغيير الطبقة السياسية بواسطة ثورة شعبيّة تديرها حالة سياسيّة أسوأ من تلك المستهدفة. لا يكون التغيير إلّا بالمحاسبة وعبر التربية على المواطنة وتحصين الأمن الاجتماعي والاقتصاديّ.
بناء السلطة القضائية وإعادة هيكلة أجهزة الرقابة
وفقاً للدستور اللبناني، يشكّل القضاء إحدى السلطات المستقلّة إلى جانب السلطتين التشريعيّة والتنفيذية. وخلافاً للدستور، لا يزال القضاء في لبنان، مرفقاً ملحقاً بالسلطة الإجرائيّة، التي تتعمّد التسويف لعدم إقرار قانون استقلالية القضاء. فِعلياً، إنّ ما يحتاجه بناء الدولة، ليس فقط استقلالية القضاء، ولكن سيادة القضاء. فبناءُ سلطة قضائية يتعدّى مسألة استقلالية مرفق القضاء. والإشكالية تتعلّق أساساً باستقلالية القضاة وحصانتهم الشخصيّة، ومقدِرَتَهم على إصدار الأحكام دون كافة أشكال الاعتبارات، والحرص على تنفيذها وليس الطعن بمصداقيتها وبهيبتها. أَهَل المشكلة في النصوص القانونية أم في الأشخاص أم بالسلطة الاجرائية الوصيّة على القضاء؟ إنّ ترهيب القضاة وترغيبهم سياسة مرفوضة تمسّ بسيادة القضاء والقضاة على حدٍّ سواء. فالقاضي يحكم باسم الشعب اللبناني، وليس باسم الزعيم وليس باسم الجهاز الأمني وليس باسم الحزب السياسي أو الحزب المسلّح وليس باسم الطائفة أو العشيرة. لا يمكن تغيير الطبقة السياسية التي فشلت بإدارة البلد ودمّرت الدولة ومستقبل الأجيال إلّا عبر محاسبتهم بعدلٍ لتبيان الحقيقة. فهل السلطة القضائية جاهزة لمحاسبة الجميع؟ أم ها هي اليوم جاهزة لحماية الجميع من المحاكمة؟ إنّ ما يحتّم إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، هو سيادة القضاة المؤتمنين على العدل للجميع وليس على العدالة الاستنسابية والعدالة بالتراضي. إنّ احترام أحكام القضاة هو المدماك الأوّل لبناء الدولة. والمحاسبة لا تقتصر فقط على الطبقة السياسيّة والقطاع العام، بل تتوسّع إلى محاسبة القضاة الجبناء والفاسدين. فما أخطر من القاضي الفاسد إلّا القاضي الجبان الذي يرتكب جريمة امتناعٍ لا تغتفر. إنّ القضاء اللبناني، بالرغم من تعطيله، لا يزال يتمتّع بكفاءات عالية علميّة وأخلاقية وعلى كلّ المستويات، يُعتمد عليهم في بناء الدولة. إنّ الامتناع عن التحقيق وتجميد المحاكمات يشكّلان جرمي الاستنكاف عن إحقاق الحقّ وعرقلة سير العدالة، كما هي الحال في ملفّ انفجار مرفأ بيروت.
وليست أجهزة الرقابة الإدارية والماليّة أقلّ أهميّة من السلطة القضائية. فنشاط هذه الأجهزة مكمّل لنشاط القضاء. إنّ تشابك صلاحيات هذه الأجهزة وتبعثرها وتعدّدها وتوزيعها الطائفي والسياسي، يجعلها خاضعة للمزاجيّة السياسيّة حيث يُحاسب الموظف الذي رُفِع الغطاء عنه. إنّ إعادة هيكلة هذه الأجهزة أمرٌ ضروريّ، علماً أنّ بعض أجهزة الرقابة التي تمّ استحداثها لا تزال حرفاً ميتاً كوسيط الجمهوريّة. إنّ بناء الإدارة يكون عبر هيكلة أجهزة الرقابة وتحصينها واحترام قراراتها. لكنّ الأهمّ، هو ليس محاسبة الموظّف العام فقط من دون محاسبة الراشي، وبالتالي يجب رفع الحصانة عن القطاع الخاص، الذي يسعى إلى تنفيذ معاملاته خلافاً للقانون، وإلى تغطية مخالفاته وإلى التهرّب الضريبي، وإلى الاحتيال على صندوق الضمان الاجتماعي.
لا ثقة بالدولة، ولا استثمارات أجنبيّة إلّا بعد تثبيت سلطة قضائية مستقلّة وسيّدة وتحفيز دور أجهزة الرقابة الإدارية والماليّة.
تفعيل الأمن الإجتماعي والإقتصادي ونبذ الأمن البوليسي
إنّ ركيزة الأمن الاجتماعي والاقتصادي هي العدالة، العدالة القضائية القادرة والعدالة الاجتماعية الشاملة. كما أنّ الأمن الاقتصادي لا يقوم على مبدأ الزبائنية بهدف رهن مصير لقمة عيش المواطن ومستقبل عائلته جراء المعادلة المذلّة «الجزرة والعصا». إنّ الأمن الاجتماعي مرتبط بالأمن الاقتصادي، الذي يقوم على حماية القطاعات الحيويّة الأساسية من هيمنة فساد السلطة عليها وتقاسم أرباحها. كما أنّ فشل الأمن الاقتصادي قد حصل في لبنان جرّاء العلاقة غير المشروعة وغير الشرعية التي ربطت المصرف المركزي بالمصارف التجاريّة، حيث تمّت المتاجرة بأموال المودعين دون حسيبٍ أو رقيب. وفي بعض الحقبات، كان الأمن البوليسي اللبناني – السوري واللبناني – الأجنبي، شريكاً في المتاجرة بأصول الدولة وبأموال المودعين، وصولاً إلى فرض خوّات على المتموّلين منهم، واغتيال وقتل بعض الوجوه السياسية والاقتصادية والصحافيّة من قِبَل زعماء العصابة إمّا بسبب قسمة الغلّة أو بسبب إفشاء السرّ. إنّ الأمن المطلوب هو حماية القضاء لمحاسبة المافيا التي تربطها ببعضها البعض مصالح تتخطّى العداء السياسي، كما أنّ الأمن الاقتصادي يقوم على حماية الحريّات العامّة لتفعيل الديمقراطيّة وتحفيز العمل السياسي لدى كافة الطبقات وشرائح المجتمع. كذلك فإنّ حماية الديمقراطيّة تشكّل حافزاً للمحاسبة والإصلاح ولكشف الحقائق. إنّ عدم احتكار الخدمات والحاجات الأساسيّة للمواطن يتطلّب أمناً اجتماعياً يؤمّن له حقّ الاستشفاء وحقّ العمل بكرامة وحقّ المسكن اللائق. إنّ التربية على مبادئ المواطنة وحقوق الانسان هي ضمانة مستقبل الشعب اللبناني المظلوم.
التربية على المواطنة والسلام لبناء مجتمع آمن
إنّ التربيّة أسمى من التعليم، فالتعليم هو مسألة تقنيّة منهجيّة تهدف إلى إيصال المعلومات على اختلاف مستوياتها. أمّا التربية فهي قائمة على التنشئة الأخلاقية، حيث تقوم على ترشيد السلوك وفقاً لمبادئ إنسانيّة ومبدئية، كقيم حبّ الوطن فوق كلّ شيء، وكمبادئ احترام القانون والنظام، وعلى ثقافة احترام الآخر وعدم التعرُّض له، وحلّ الخلافات بالوسائل السلميّة وحماية البيئة. أمّا في العمق، فإنّ هذه التربية هي تربية على المواطنة، حيث للفرد ليس فقط حقوق ولكن عليه واجبات تجاه دولته ومجتمعه. إنّ التربية على قيم التطوّع ومساعدة المرضى ومساعدة الضعيف والدفاع عن الوطن، هي أسسٌ لبناء الدولة اللبنانية، بدلاً من زرع قيم الهجرة وعدم الإيمان بلبنان والاستهزاء به والاستخفاف به وكأنّه ليس إلّا بقعة جغرافيّة ذات طابع استهلاكيّ. إنّ التنشئة على حقوق الإنسان كحجر الزاوية للمواطنة تستدعي التربية ليس فقط على الحقوق السياسيّة والمدنيّة لتحفيز الديمقراطيّة، بل على الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لازدهار المجتمع وتنمية الفرد وتطوّر القطاعات الانتاجيّة بخدمة الأمن الاجتماعي والاقتصادي.
إنّ ضرب هيبة القضاء، وتفشّي الأمن البوليسي والميليشياوي، وتوجيه التعليم وضرب التربية، وتلقين ثقافة التمييز الديني والسياسي والتشجيع على العنف، وثقافة حلب الدولة وازدراء المال العام والاستهتار بشرطي السّير، وتحقير المقامات والثقافات، شرورٌ سامّة لا تزال تُدسّ في حليب الرضع.
(*)بالتزامن مع نداء الوطن
(*) محامٍ دوليّ وعميد كليّة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الحكمة