بلدية الحدت والحفاظ على الوجود
أثارت قضية بلديّة "الحدت" المسيحيّة حسب التعريف المجتمعيّ اللبناني، الواقعة في الضاحية الجنوبية الشرقية لمدينة بيروت، نتيجة رفضها سكن المسلمين شراء واستئجارا، ردود فعل متضّادة، حبلت بها التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتشاركت فيها إسنادا أو رفضا، بعض من الهيئات الرسمية، المحليّ منها، والوطني. وكانت القضية أثيرت من قبل أحد المواطنين، على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي حاول استئجار بيت في البلدة المذكورة، وتمّ رفض تأجيره، نتيجة انتمائه لإحدى الطوائف الإسلاميّة.
وجاءت التعليقات على قرار البلدية بين مؤيّد له حفظا للوجود المسيحيّ في البلدة ومنعا لاندثاره، خصوصا أنّ قسما كبيرا من أراضي البلدة بات ملكًا، سكنًا واستقرارا، للطوائف الإسلاميّة، ولم يخلُ الأمر من استعادة صفحات مريرة من الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حين كانت البلدة على خطّ تماس التّحارب الأهلي، والسعي لاحتلالها من المسلمين.. وبين رافض للقرار، داعيا للالتزام بالدستور اللبناني، الذي يبيح للجماعات اللبنانيّة السّكن، في أيّ بقعة تشاء، أو ترتأي، معيبًا على البلدية ومؤيديها، طائفيتها، وتمييزها، بين مواطنٍ وآخر.
وبين التأييد والرفض، اصطفّت الجماعات اللبنانيّة، تقابل بعضها بعضا، نصرة وتغالبا.فالحفاظ على الوجود هو التوصيف المعلّل لرفض السّكن، حفاظ أقليات على نفسها مخافة اجتياح أكثريات، لكن لهذا جذر، يقبع في أساس الظهور المعلن للمشكلة، البادية في ظاهرها بسيطة، لكنّها في جوهرها عميقة، أقلّ إشكال، مهما بلغ من تفاهته، يعيد الجماعات للانتصاب في وجه بعضها البعض، العقدة الأساس هي ثقافيّة بامتياز، وهي ما يجعل جماعة تبتعد عن الأخرى، وهذا الاختلاف الثقافي ليس وليد اليوم، مرتكزاته عميقة زمنيّا، وبات يتوسّع (الاختلاف)، فروقاته واضحة، ما أن تقطع شارعا واحدا يفصل بين منطقتين، مدينيتين كانتا، أم طرفيّتين، حتى تبدو الفروقات واضحة، شعائر كانت أم طقوسا أو ملبسا، وتنظيما، وتعليما، شعارات وسياسة، وصولا إلى الحياة والموت وغيرها.
طبيعيّ، في ظلّ الاختلافات تلك، ان يحلّ التنافر محل التقارب، والرفض مكان القبول، هو نظير بالسّلطة السياسيّة الحاكمة، القائمة على التنافر والتّوافق في آنٍ معا، وطالما هذه مقبولة في البنية الفوقيّة، فما الضير من نقدها، ونقضها، ورفض ممارستها بلديّا، وجماعاتيّا، مدينيّا، أ ومناطقيّا، ولما غضّ النظر عن الممارسات الفوقيّة، ومحاسبة البنية المحلّيّة، وطالما يرفض تنصيب مدير لأحد فروع الجامعة اللبنانيّة لأنّه من غير طائفة أهل المنطقة، وينصاع للرافضين، فلما يُحرم على بلدة الحدث رفض إسكان غير أهل طائفتها فيها!
لا حلّ إلا بإرساء ثقافة جامعة، تأخذ بعين الاعتبار الثقافات الفرعية، تجمع الفروقات وتسير بها قويما، نحو التوحّد، وهذا يحتاج زمنا ورجال.