بقايا الجمهورية تحت أقدام “زعمائها”(نسيم الخوري)
بقلم الدكتور نسيم الخوري – الحوار نيوز
هللنا عندما تم اعلان “الحرب” على الفساد والفاسدين من قبل حزب الله على سبيل المثال، لكن ثبُت بان القضاء على الفساد أشرس وأصعب من الحروب ، وهكذا نرى اللبنانيين على تنوعهم في تفقير وجوعٍ وإذلالٍ وأمسوا واصبحوا كذلك وهمخ ما زالوا وما فتئوا وما برحوا وسيبرحون حتّى يلتهم الفاسدون هياكلهم العظمية وهم يسُاقون أمام المسالخ كما الأغنام.
سبق أن أطلق هذا اللبنان وزارة جديدة اسمها :”مكافحة الفساد”، اعتبروها فاسدة، ولطالما حلم اللبنانيون بقاضٍ أو قضاة يمحقون الفساد والفاسدين بدلا من أن يُعلن القضاة الإضراب العام فتُقفل العدليات والنيابات العامة وتُترك البلاد ساحةً للّصوص وقّطّاع الطرق وعصابات السلب والنهب والقتل كما حصل مؤخّراً في طرابلس بقتل أربعة في محال لبيع الهواتف الخليوية، وكأن داعش أطلّت برأسها مجدداً من الشمال. لماذا انتظر القضاة تآكل رواتبهم ومثلهم كثيرون سبقوهم من اساتذة الجامعات وقد اُكلت رواتبنا وكراماتهم الأكاديمية إذ لا يصل راتب بروفسور يحمل 2 دكتوراه من السربون مثلاً، وله 26 مؤلف ومئات المحاضرات والدراسات و35 سنة من التعليم الجامعي وتخريج الدكاترة إلى 172 $ شهريا مع أنّ معظم القضاة كانوا من طلاب الجامعة اللبنانية التي ترزخ تحت فضائح سرقات ميزانياتها من ال PCR؟ لماذا لم تخرجوا من زواياكم وتُعلنون القضاء على جمهورية الفساد الثانية في العالم ؟
لا جواب، بل ألف جواب لزج تخجل منه حتّى ثياب القضاء الزاهية بملامح السلطة المخطوفة. لاح بل برز نجم غير منتظر اسمه “نادي قضاة لبنان”( 24/2/2020) مطالباً بما ورد. فرح الناس وهللوا، وهللنا معهم وكتبنا وخطبنا ونشرنا باسم “التجمع الأكاديمي للأساتذة الجامعيين”، واجتمعنا بمؤسسي النادي متلهفين لتنظيف الديمقراطية وفصل السلطات، وقاتلنا بهدف تقديم الإخبارات وفتح الملفات المتراكمة بما يتجاوز حجم جمهورية الإثراء غير المشروع وتأملنا كثيرا وتألمنا وما زلنا نتألم مع بقايا اللبنانيين حتى تفتّت الهياكل العظمية.
خطفت أوّل رئيسة للنادي القاضية نادية سلامة الضوء اذ أعلنت باسم النادي “أنّ الازمات التي يواجهها اللبنانيون هي وليدة فساد معظم الحكام ومنظوماتهم القضائية والمصرفية والادارية والأمنية العتيقة الفاشلة عن التفكير بأيّة رؤية انسانية اقتصادية هادفة”، وانصب الهم على ورشة انتشال لبنان المشاع والمشلّع من انياب الذئاب الكاسرة التي لا تموت.
غير صحيح هذا فقد أشرنا إلى مثيل ومثالٍ لها في إيطاليا، بعدما طالب النادي بإصدار قانون يجمّد الاصول المنقولة وغير المنقولة لكل المسؤولين من دون تمييز كضمانة لودائع الشعب اللبناني الذي وقع ضحية جشع الفاسدين من الطبقة السياسية.
وحمّل النادي، لأوّل مرّة في تاريخ لبنان، الهيئات الرقابية المصرفية، لا سيما هيئة التحقيق الخاصة مسؤولياتها وأوعز الى هؤلاء ضاغطا بتقديم استقالاتهم، اذ لا يمكن ان تحول الحصانات القانونية التي يتمتعون بها دون مساءلتهم، للإتيان باشخاص أصحاب صدقية وسمعة عالية. وأكثر، راح بعض القضاة يحفّزون هيئة التحقيق الخاصة المباشرة بالتحقيقات اللازمة في ما يتعلق بحسابات الذين تولّوا الشأن العام وإعلام الرأي العام بالتفاصيل، وكذلك إلزام أصحاب المصارف اللبنانية بإعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج ورفع رساميل مصارفهم خلال فترة قياسيّة على ان يتم ذلك من أموال جديدة (fresh money) وليس باستبدال قيود حسابية لا تحقق النتيجة المرجوة. واعتبر النادي أنّ المحاكم الجزائيّة والنيابات العامّة، وليس المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، هي المختصة بملاحقة ومحاكمة الوزراء بالجرائم العادية المقترفة خلال ممارستهم لمهامهم، إستناداً لاجتهاد الهيئة العامة لمحكمة التمييز (الصادر بتاريخ 8/3/2000.(
ولأنّ لبنان تجاوز إيطالية في سرد “ثقافة الفساد”،عاش اللبنانيون نشوة بدايات التغيير السحري، يتناقشون ويستعيدون تذكر الفضائح التي هزّت إيطالية في ال 1994 التي دفعت الإيطاليين إلى تسمية عاصمتهم روما “مدينة الرشاوى” وهو ما لم يهزّ رئيس حكومتهم “ملك الفساد”، سيلفيو برلسكوني الثري رقم 14 في أنحاء العالم من العودة إلى الحكم بعد تنحيته في ال2001 قائلاً بأنّه ” ضحّى ويضحّي ويسدي خدمات للشعب والدولة وهم بحاجةٍ قصوى إليه، وهو بالمقابل ليس بحاجةٍ إلى أيّ منصب أو سلطة”. وحتّى عندما طرده الإيطاليون من منصبه بعد خمس سنوات، مثبتاً للعالم بأنّ أضخم الثروات عاجزة عن حماية الفاسدين وإبقائهم في مناصبهم، علّق بالحرف الواحد مكابراً، وكان إقتصاد إيطالية ينهار تحت قدميه يومذاك كما لبنان اليوم:
“إنّ شعوراً أعمق ينتابني بأنّني لست بحاجةٍ إلى الشعب الإيطالي. هو بحاجةٍ إلي وإنّني أقدّم له اليوم بخروجي كما بدخولي إلى الحكم تضحية تاريخية”..
يتماهى البعض من القضاة اللبنانيين المضربين اليوم بالقضاء الإيطالي، وتتشبّث بأحاديثهم سيرة القضاء الإيطالي الذي ، وقضى عليه حين اكتشف أثناء التحقيقات تورط بعض السياسيين في قضايا رشوة. توسّع في التحقيق ليجد نفسه حيال
أعلن القضاء الإيطالي الحرب على الفساد (1992) وقام بتوقيف شبكات ضخمة يتورط فيها شخصيات من كل الوظائف والمستويات، وزراء ومدراء شرطة، مدنيون وعسكريون، ديبلوماسيون، رجال أعمال وزوجاتهم وأولادهم وأصهرتهم وأزلامهم وشملت الاعتقالات ٥٠٠٠ شخص بينهم أكثر من ١٠٠٠ من رجال الدولة والسياسة من وزراء في الحكومة ثم رئيس الوزراء الذي هرب لتونس ليقضى هناك بقية حياته. حارب القضاء بل لغّم دولة بأكملها وفجرها، مضيفا لأعدائه عصابات المافيا مانحا العملية تسمية: “الأيادي النظيفة”.
هبّ الايطاليون كالمجانين لحجم الفساد الذي اكتشفوه ، وخرجوا في مظاهرات تدعم القضاء وتعتبره مخلّصاً وغنىوا له بشعار وصوت واحد: ” جعلتنا ايها القاضي نحلم”.. وتحوّل القضاء أسطورة ايطالية حية ألهبت المحللين والكتّاب في الدنيا.
عندما سئل القاضي دو بييترو ، كيف قمتم بتلك “المعجزة وقد كنتم ستدفعون حياتكم ثمناً لذلك”، أجاب مازحا :
“يشبه الفساد زواج المصلحة”. إذا أفسدنا المصلحة يبطل الزواج، ويصبح الأحبة أعداءً يدمّر بعضهم بعضا.
دخل دي بييترو تاريخ إيطاليا مدمرا طبقة فاسدة عمرها أربعة قرون ومدمرا أحزابا تاريخية، وانتهت على يديه الجمهورية الإيطالية الأولى لتعلن الجمهورية الثانية.
ونحن في لبنان بالإنتظار.