رأيمحليات لبنانية
بعد قرن من الآلام والأوهام: هل من تطلعٍ الى دولة المواطنية في لبنان ؟(محمد سعيد بسام)
كتب د. محمد سعيد بسام*
يقول ويعيد اعيان لبنان السياسيين على اختلاف مشاربهم: “إن لبنان الطائفي هو “لبنان التوافق بامتياز” !! فلا يجوز ان يُقرّر أمر مصيري فيه الا بالتوافق الطوائفي،! واستطرادا يولد، عُرفاً، ما يسمى “الفيتو الطائفي” لاي طائفة ترفض، عبر ممثليها الدينيين او الدنيويين، اي قرار مصيري لبناني عام !!
مع ذلك، يطلق البعض في لبنان إعلاميا، أفرادا (شخصيات وزعامات) وجماعات (احزاب طوائفية)، شعارات خلافية مصيرية كبرى، دون اي تنسيق مسبق اوتفاهم مع الآخر الطائفي، مثال الطروحات المتأخرة: الحياد بنسخ متعددة ايجابي نشِط؛ المقاومة وشرعية سلاحها؛ تدويل بصيغة مؤتمر دولي حول لبنان؛ فدرلة لبنان لصعوبة التعايش معاً؛ اجراء الصلح مع اسرائيل بشروط ، لا عداء ايديولوجيا بين لبنان واسرائيل، هذا إلى حد طرح التطبيع المبطّن بين البلدين من خلال طرح استثمار الآبار النفطية المشتركة بين لبنان واسرائيل عبر شركة ثالثة ،، وربما تتوالد مثل هذه الافكار بعد وبعد لاحقاً،
مبدئياً، لا أحد يكره الحياد في عالم متفجر بالحروب، ولا احد يندفع للموت مجانا إن لم يكن لمقاومة غاز محتل. ولمّا كان نصيب لبنان ان يكون من امة عربية منكوسة اُخرجت للناس، وانه جزء لا يتجزأ منها هوية وانتماء، وطنا نهائيا لجميع بنيه، ولما وقع لبنان ايضا في منطقة شؤمٌ طالعها، ومهتز فالقها، استهدفتها الدول الكبرى، بعد حروب عالمية اكبر، بالاستعمار والاستيطان والاغتصاب، دونما ادنى مسوّغ سوى موازين الضعف والقوة؛
فبعد تقسيم العالم العربي بموجب اتفاقية سايكس – بيكو الانكليزية الفرنسية، دويلات مصطنعة باسم أديانٍ ومذاهب واقوام، زرعت في قلبه كيانا مصطنعا بمزاعم تاريخية اسطورية (الكيان الاسرائيلي)، ليكون قاعدة عسكرية، استُجلِب لها شعب، وهُجر شعبها الفلسطيني وشُرد في اصقاع الارض، فكانت هبة ممن لا يملك لمن لا يستحق، هذا ويطلب من اصحاب الارض الفلسطينبين، ومن امة العرب المهيضة الجناح، بعد هيمنة تركية متخلفة لقرون اربعة، نسيان هذا الاغتصاب على فظاعته، وهو حدث غير مقبول لا انسانيا ولا قوميا ولا اخلاقيا ولا دولياً، ولا يغير في الامر ما ظهر ويظهر من العرب من رِدّة وعجز واذلال وارتهان وخذلان الخ، فمبادئ الامم المتحدة تتولى بالرعاية والحماية لقضايا الشعوب المحقة والسلام العادل ولو بعد حين، فإن كان اليوم خمر فغدا أمر، ولا يضيع حق وراءه مطالب مهما تقادم الزمان، فمن اقدارنا العربية الخروج مرة من الاندلس، وخروج الصليبيين مرة من بلادنا بعد مئات من السنين.
مبدئيا، ليس ما يمنع اللبنانيين من استيلاد الافكار الخلاقة، لكن للامر مقاديرَ ومحاذير،! كأن تُطرح الشعارات اعلاه، بين عقلاء الامة لا بين غوغائها، على طاولة مستديرة خاضعة للمفاوضات، والاخذ والرد وتدوير الزوايا، حتى اذا ما ظهرالتوافق حولها تعلن للعامة بشبه استفتاء،! وإن لم تلق القبول تعلّق وتؤجل لتولد ظروفها، فنتفادى انقساماتها المجانية،… هذا لا إن تطرح الامور مباشرة للعامة، في عصر الفيسبوك والسوشل ميديا، حيث سريعا ما تتناولها دهماء الطوائف بالاصطفافات العشوائية الحزبية العصبوية العدائية: مع وضد ،! فيتعطل العقل وتحضُر الاعصاب، وتنعدم امكانية التفاهم والتوافق، ويُجهَض الشعار قبل ولادته، ويزداد تفكك “المجتمعات” الطوائفية اللبنانية الفدرالية غير المعلنة، بدل توحيدها، والبلد “مش ناقص”، وليعلم المهتمون أن الوصول الى الفدرالية قد ينهي الكيان بدل اراحته، وقد يفتح البلد على ما قبل تشكيل لبنان الكبير 1920، و”على لبنان جنت براقش”،
يبقى ان بعض سيئي الظن يظنون ببعض مطلقي هذه الشعارات، وهؤلاء من النخب الفكرية المثقفة، ومن المقامات الاجتماعية الواعية، المطلعة على المشاريع السياسية والمرتبطة بها بخيوط وخيوط، قد تنقطع بهم في “نص البير” وبعد فوات الاوان، نقول يظن سيئو الظن بهؤلاء أنهم مفتعِلون لهذه الشعارات الخلافية الخطيرة، لا بل مدفوعون ومدسوسون من قبل خارج غربي عموما وامريكي خصوصا، للصالح الاسرائيلي، مستهدِفٍ للمنطقة بالشرور ومزيد من السيطرة والنفوذ، استكمالا لمشروع سايكس – بيكو بمشروع الشرق الاوسط الجديد، ومن اركانه “اسرائيل” (وايران وتركيا)، أما لبنان المرفأ والمصْيف والمصْرف المنافس الرئيس لاسرائيل، فيجب انهاء دوره او تهميشه على الاقل في “ساعة سمّاعة”.
وعليه، فإن بعض “النبيهين” يرون ان هذه الشعارات البراقة، مضافة الى ما أُعد للبنان، بالصمت حينا والجهر احيانا، من فساد سياسي واهتراء اداري وانهيار اقتصادي ومالي، وتفجير المرفأ في 4 آب 2020 ، وفقدان الثقة بالقادة اللبنانيين، “كلّن يعني كلّن”، دفعات على الحساب.ان هذه الشعارات لا تُطرح كحلٍ من أجل لبنان، بل بالعكس، فهي تدميرية من اجل زعزعة كيانه وزيادة شروخاته وتفكيكه واهترائه اكثر فاكثر، مقدمةً لساعة جهوز الظروف الدولية لاعلان الغرض الاكبر الكامن خلف هذه الشعارات – الطروحات، وقد يكون انهيار الكيان اللبناني .
هذا فضلا عن طروحات لبنانية خلافية متجرئة على قدسية ومبدئية القضية الفلسطينية، فإن تكرار الاقترافات اللفظية واثارها النفسية تمهد الارض لمقبّلات الحل التفاوضي الاستسلامي بذريعة “بدنا نرتاح” ،، علما ان التوطين في لبنان مشكلة اضافية على مشاكل لبنان الديموغرافية – الطائفية.
ولمن يستنكرون هوْل هذه التداعيات نقول: هي جزء من مسار التاريخ، تذكّروا مشروع كيسنجر ومشروع مورفي لترحيل المسيحيين من لبنان خلال الحرب الاهلية 1975، وتذكّروا اجتياح لبنان 1982 الذي كاد يغرّب لبنان عن محيطه العربي لينهيه او ينهي دوره؛ وتذكروا اقوال بن غوريون” أن إئتوني بضابط لبناني متعاون لانهي لبنان”، وقد تهيأ له ضابطان واكثر، ولكن المقاومة الوطنية اللبنانية قامت بالمعجزة، واجهضت المشروع الصهيوني بشكل اسطوري، الخ،! علما ان “اسرائيل” كيان معروف بالتخطيط المركّب وإلاعداد طويل الامد متنوع الادوات، وغدا يوم آخر.
خلاصةً، لِندع سيئي الظن لظنونهم، ونعود الى تبسيط الواقع اللبناني المرير، محورِ هذه المقالة. بعد مئة سنة من الطائفية والانقسام الطائفي في حياة من الشقاق والعذاب والشقاء المتبادل، لسنا بحاجة راهنا الى مزيد من الشروخات التفكيكية والتطلع الى اشكال من الفراق الهمايوني الفدرالي – التقسيمي،! ألا من وقفة تأمل عاقلة، واعادة نظر هادئة، ومراجعة علمية للتاريخ واحوال الاجتماع والتعايش، الا من قلْب صفحة وفتح اخرى ولو على سبيل التجربة، او التمثل بالدول المتقدمة المتعددة الاديان والمنابت، وفرنسا الام الحنون خير مثال، وهي مثال العيش الواحد المتحد في ظل القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية والاخوّة الانسانية، في دولة مدنية لا يضير مسيحييها اقلية مسلمة تفرْنَست بعد مغاربيتها،
وبعد، بكل علمية وواقعية موضوعية تراعي التقدم والتحضر، دعونا من الاحلام والاغترار والاغراض المعْوجّة العرجاء المخالفة للطبيعة والتاريخ، دعونا من الاختلاف على الارض باسم السماء، فهل من يتبنون “حركة سلام داخلي الآن في لبنان” ، تطلعا الى لبنان دولة المواطنية الانسانية اللاطائفية، دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية، لمجتمع سعيد ووطن مجيد ، ولو بعد قرن من الآلام والاوهام!!
-
مؤرخ وباحث لبناني