بايدن في الكيان المؤقت .. وفلسطين في العقل الاميركي!(محمد صادق الحسيني)
محمد صادق الحسيني
يفسر غالبية المثقفين العرب، الموقف الأميركي من فلسطين، من خلال الفهم الخاطئ لطبيعة العلاقة بين أميركا والكيان الصهيوني، حيث لا يزال كثير من مثقفينا ومفكرينا ومحللينا، يصرون على أن جماعات الضغط اليهودي في أميركا هي التي تُشكل وتُحدد السياسة الأميركية، وأن هذه الجماعات لها قدرة كبيرة على التأثير في الانتخابات الأميركية؛ ومن ثم تحديد سياسة الولايات المتحدة الأميركية، في اتجاه تحقيق التأييد والدعم للكيان الصهيوني.
إن تفسير اللوبي اليهودي، ومن ثم الانحياز الأميركي لـ «إسرائيل»، يجد أساسه في الثقافة الأميركية، والتي توصف بأنها ثقافة يهوــ مسيحية (Judeo Christian)، تقوم على التقاليد الأخلاقية، والدينية لليهودية، والمسيحية، أي “التراث اليهودي المسيحي”، الأمر الذي تُرجم، في النهاية، إلى معنى سياسي، هو توافق القيم الأميركية، والإسرائيلية.
فالكتاب المقدس، يُشكل العمود الفقري للعقل السياسي في نسخته الأميركية؛ ويساهم، إلى درجة كبيرة، في صنع الرأي العام الأميركي، وثقافته، وسياسته تجاه محددات الصراع، وموقفه من العدو الصهيوني. وهذا يدحض فرية “اللوبي اليهودي”، والتي يستند إليها بشكل شبه حصري العقل العربي، والإسلامي، لتبرير الفشل المزمن في مواجهة أمريكا.
يستعرض كتاب “فلسطين في العقل الأميركي: 1492 ــ 1948” في بابه الأول، “نحو قيام الأمة المشمولة بالعناية الإلهية”، علاقة الأطماع الاقتصادية بالدين. فلقد شمل تمويل حكام إسبانيا مشروع كولومبس، خطة أكبر بكثير من مشروع استكشاف الهند.
ففي سريرته كانت هذه الرحلة الخطوة الأولى في حرب صليبية، يستطيع بها ملكا إسبانيا وكولومبس استعادة الأراضي المقدسة وإرجاعها إلى الدين المسيحي.
فقد سيطر على كولومبس تصوَّره لنفسه، كأداة في يد العناية الإلهية، التي اصطفته لتحقيق النبوءات، وبخاصة المتعلقة بتحرير القدس.
هكذا، شرعت أميركا، عقب اكتشاف كولومبس إياها، سنة 1492، إلى تطبيق النصوص الحَرفية للكتاب المقدس، بحملاتها التوسعية في القارة الجديدة.
ففي الفكر المسيحي ، أخذ تأسيس أميركا، الصورة المقابلة لتأسيس بني إسرائيل، فتتحول الولايات المتحدة الأميركية إلى “أورشليم الجديدة”، حيث أخذت الرموز التوراتية تهيمن على الحياة الأميركية. فـنشأة أمريكا كانت نتيجة اندفاعة دينية، وكان خطاب المهاجرين يتألف من إسقاط قصص الكتاب المقدس على تجربتهم، ومن عالم الخيال الكتابي، استقوا إرثهم الأسطوري.
لقد وجد في التاريخ الأميركي، منذ بدايته الأولى، ميلاً مسيحياً قوياً، للاعتقاد بأن المجيء الثاني متعيَّن أن يظل رهيناً بإنشاء الدولة اليهودية، التي يلتئم فيها شمل اليهود. وخلال السنوات الأولى من “حياة الأمة الجديدة”، كُتبت أعدادٌ هائلة من الكتب، والكراريس، والمواعظ، والخُطب، تدعو إلى إعادة اليهود إلى فلسطين. وفي بداية القرن الثامن عشر، سيطر على العقل الأميركي، فكرة أن المجيء الثاني للمسيح، رهينة بإعادة اليهود إلى فلسطين.
“تخيُّل الشرق الأوسط”، وهو الباب الثاني من الكتاب، فيشير إلى علاقة الولايات المتحدة الأميركية بالشرق، فمصطلح “الشرق الأوسط”، ابتكره الأدمريال الأميركي، ألِفرد ثاير مِهان، عام 1902.
تمخض القرن التاسع عشر عن كتيبات، ومؤلفات عديدة، لكثير من الرحّالة، الذين كتبوا عن الشرق العربي، مسجلين وصفهم له، وانطباعاتهم عنه. وقد أسهم أدب الرحلات إسهاماً فعالاً، في نقل صورة المنطقة العربية، وتحليلها.
لم يكن للقارئ الأميركي تصوّر واضح عن شرقنا العربي، وشعبه، ولم تتجاوز معرفة الكثير من الناس بهذا الشرق، حدود تلك الصورة الرومانسية ذائعة الصيت، التي سيطرت على العقل الغربي، لفترة طويلة من الزمن، منذ الحروب الصليبية.
فقد ورثت الولايات المتحدة الأميركية، صورة الشرق، حسبما وضعتها أوروبا، فالاستشراق الأوروبي ظل مؤثِّراً، ومهيمناً في علاقة الولايات المتحدة الأميركية بالشرق، كما ورث المستشرق الأميركي الجديد، “مواقف العدائية الثقافية، واحتفظ بها”.
واستناداً على هذه الصورة النمطية للشرق، تناول الباب الثالث من الكتاب، مغامرات في “الأرض المقدسة”، تأسيس “مجلس المفوِّضين الأميركيين بالإنجيل في الأراضي الأجنبية”
وقد انطلقت إرساليات المجلس الأميركي من بوسطن، عام 1819، لـ”العودة إلى أرض الميعاد المقدسة، في حملة صليبية غير مسلحة”. تلتها مرحلة استكشاف فلسطين، والسير على خطى “بني إسرائيل” المُتخيلة، التي بدأها إدوارد روبنسون، وإيلي سميث، في العام 1838، وتبعه وليم فرانسيس لينش، في العام 1847. وفي القرن التاسع عشر، انطلقت جماعات أمريكية، إلى “الأراضي المقدسة” لإنشاء مستوطنات، في سبيل التعجيل بالمجيء الثاني للمسيح.
في سنة 1891، تقدَّم وليام بلاكستون، بــ”عريضة” إلى الرئيس الأميركي، بنيامين هاريسون، مطالبًا بتدخُّل أمريكا، لإعادة اليهود إلى فلسطين. وجمع على العريضة توقيعات 413 من كبار الأميركيين المسيحيين البارزين. لقد كُتبت “وثيقة بلاكستون”، قبل خمس سنوات، من نشر الأب الروحى المؤسس للحركة الصهيونية الحديثة، تيودور هرتزل، كتابه “الدولة اليهودية… وتأسيس الحركة الصهيونية”.
وأخيراً، وفي فصل، “السياسة الأميركية تجاه فلسطين: 1917 ـ 1948 “، فقد تم استعراض الدور الأميركي في إصدار “وعد بلفور”، فـ”الصهاينة الأميركيون كانوا مسؤولين عن النص النهائي لوعد بلفور”.
جاء التأييد الأبرز لوعد بلفور من الرئيس الأميركي ويلسون، وأصدر مجلس النواب الأميركي، في 30 يونيو/ حزيران 1922، قراراً أيد فيه “إعطاء بني إسرائيل الفرصة، التي أُنكرت عليهم طويلاً، لإعادة تأسيس حياة يهودية، وثقافة مثمرة في الأرض اليهودية القديمة”. كما أصدر الكونجرس، سنة 1935، قراراً طالب فيه حكومته، “ببذل جهودها من أجل فتح باب الهجرة اليهودية، غير المقيَّدة إلى فلسطين، لتمكين (الشعب اليهودي) من (إعادة بناء) فلسطين، كدولة حرة”.
ومنذ مطالع أربعينيات القرن الماضي، بدأ نشاط واضح، في المؤسسات الصهيونية بالولايات المتحدة الأميركية؛ ففي صيف 1940، انتقل مركز الثقل في النشاط السياسي الصهيوني إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ولعبت الولايات المتحدة الأميركية دوراً في إقرار مشروع قرار تقسيم فلسطين، وما كان قيام “إسرائيل” في فلسطين ليُحرز أغلبية الثلثيْن، في هيئة الأمم المتحدة، لولا ضغط أمريكا على بعض الدول، وتغيير الأخيرة موقفها في آخر لحظة، نتيجة لهذا الضغط.
إذن، لفلسطين لدى الولايات المتحدة شأن آخر، فهي ليست مجرد “استراتيجية”، أو اقتصاد، أو “مجال حيوي”؛ وبالتأكيد، فهي ليست بسياسة خارجية، إلا في الإطار البيروقراطي.
فمادام إنشاء أمريكا وتاريخها، لم يكن إلا تأسياً بفكرة “إسرائيل” التاريخية،
فالأميركيون ورؤساؤهم، على اختلاف مذاهبهم، ومشاربهم، لا يتفقون على شيء، كاتفاقهم على المشروع الصهيوني، الذي يشربه الأميركيون مع حليب أمهاتهم، ثقافياً، وتاريخياً، وتربوياً، وإعلامياً، ودينياً، ومثلاً أخلاقياً أعلى.
راجعوا وثائق الكونغرس ستكتشفون ان اميركا هي اسرائيل الاولى بالاسم.