بانتظار الدفن .. بين الدولة والثورة (نسيم الخوري)
الدكتور نسيم الخوري
لم يكن من الصعب استشراف التحوّلات والإنهيارات التي ستعصف بلبنان قبل الحراك المتحيّر بين الإنتفاضة و”الثورة” منذ ما قبل 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019.
ثلاثة أساتذة جامعيين بادرنا وتداعينا لقرع أجراس الخوف من المستقبل: الدكتور عصام خليفة المرشّح اليوم لرئاسة الجمهورية اللبنانية المتحيّرة، والدكتور بشارة حنّا وكاتب هذا النص. ترصّدنا بخوفٍ وقلق تزامن الإحتفال الرسمي بمرور 100 عام على ولادة لبنان الكبيرفي ال1920، بإنهيارات كبرى إنتظرناها ونبّهنا لها عبر نصوصنا ولقاءاتنا في الجامعات أوّلاً. كان لا يمكن لعاقلٍ فصل الإنهيارات عن الفشل السياسي المقصود. وكان ترقّب مصير الهبّة التي عمّت لبنان، وراحت تُقارع الجدار الرسمي المشقوع منذ عقود بالكوارث والمتعامي إلاّ عن السجالات والصراعات الداخلية المنراكمة دونما أي إعتبار لانهيارات الوطن فوق رؤوس أهله.
نبّهنا للمخاطر المحدقة بلبنان، في زيارات للمسؤولين كما عبر الإجتماعات والمحاضرات والمناسبات واللقاءات الإعلاميّة والمذكّرات والدراسات التي أرسلناها وسلّمناها باسم”التجمّع الأكاديمي للأساتذة الجامعيين ” الذي ضمّ العديد من الاساتذة والطلاب الجامعيين في لبنان إلى المسؤولين والمنظّمات الدولية، ونشرنا عيّناتٍ منها بالأرقام والنسب للمخاطرالمتضافرة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي وخصوصاً في ما جذب الرأي العام في ملف الترسيمات البحرية والبريّة وثروات النفط والغاز وخصوصاً أحقية الخط 29 بدلاً من كلّ الخطوط الأخرى، وأخفقنا من دون أيّ اعتبارمن قبل معظم المسؤولين. كنّا على يقين أنّ مستقبلاً قاتماً يزداد سواداً ينتظر أجيال اللبنانيين المستمرّين في كظم ضيقهم وتراجعهم وهجرة شبابهم وشاباتهم، على وقع الوعود الفارغة التي كنّا نشير إليها بصفتها المؤشّرات الخطيرة التي ستحطّ بالوطن في المجهول.
إن إحتكاكنا اليومي بالأجيال في أحرام الجامعات، وفي طليعتها الجامعة اللبنانية والمنتديات والجمعيات الثقافية والإجتماعية، جعلنا أكثر إدراكاً ومسؤوليّة وقناعة لما هو آتٍ من فراغات وخرائب. وعلى الرغم من الآمال والإيجابيات التي كانت وما زالت تحكم أنشطتنا، كانت هناك قناعةٍ راسخة صادمة تلازمنا بأنّه لا يمكن ترك لبنان ينهار أمامنا، ولا بدّ من نقد الإمعان في السياسات المتنافرة التي تديرها المرجعيات الحزبية والطائفية الفاسدة التي تتقاسم بشكلٍ فاضح السلطات والمناصب والمال العام في لبنان، بالإضافة إلى المكابرة لتسليم بقايا الوطن المهرّب إلى أولادهم وأحفادهم وأزلامهم بما يبقي لبنان عقاراً خاصاً جاهزاً للإفلاس رهن إشارات المنظّمات الدوليّة .
كنا وما زلنا على قناعةٍ بأن اللبنانيين ينزلقون أكثر فأكثر نحو التخبّط في مجاهل شاقّة ووعرة في تاريخ لبنان الحديث المتهالك بين أيدي حكّامه وسياساتهم ، متيقنين بأنّ المجابهة والتوعية والإضاءة والتقويم والإيجابية في المحن الكبرى هي من أبسط الواجبات الأكاديمية والوطنية، ومن غير المسموح لأحد التفرّج على وطن ينهار من الوجوه التربوية والإجتماعية والمالية والإقتصادية والنقدية ويؤرّق حياة اللبنانيين بما يتجاوز ما عانوه في أحلك الظروف منذ “سفر برلك” إلى اليوم مروراً بالإعلان عن دولة لبنان الكبير.وتساءلنا:
هل لنا أن نجمع بعض النصوص التي شبّهناها بالبروق الإستشرافية المتلاحقة التي كانت تخيفنا وتلهبنا قبل نزول الناس إلى الساحات وقمعهم في تلك الساحات؟
كان لا بدّ من ذلك، بعد أن رفعنا قواعد الأعمدة التي لربّما تنقذ اللبنانيين وفي طليعتها القضاء المستقلّ العادل والمساءلة والمحاسبة ومؤسسة الجيش وأساتذة الجامعات ورجال القانون وكيفية إسترداد الأموال المنهوبة وغيرها الكثير التي تناولناها في كتابٍ عنوانه: “بريق الثورة في لبنان” (17 تشرين الأوّل 2019).
كانت تلك البروق العفوية اللاذعة للأحاسيس الوطنية على كوارث لبنان، تتحسّس رعود الإنتفاضة أو الثورة الطبيعية. عكسنا بوضوح ومغامرة إستقلاليّة الرؤية والتوجّه وشرحنا فيها أبعاد المآزم المرتقبة وكأنّنا التقطنا بعض البروق بين أيدينا منبّهين إلى مخاطرها قبل أن تتحوّل إلى رعود في الساحات والجادات طلباً للبنان الجديد الظاهر في حناجر الشابات والشباب ولوضع حدّ فاصل نهائي بين لبنان الهرم العتيق الحزبي الطائفي المقيت ولبنان المعاصر والحديث والحرّ والديمقراطي بالأفعال والأحكام والقوانين لا بالشعارات والخطب الفارغة. وكانت الخيبة في الشعب الممزق الذي لم ولن يتحرّك.
كان هناك إستحالة في التوفيق بين “الثورة” والدولة حيث المصالحة النهائية بين البرق والرعد في لبنان. أوّلاً لأنّ “الثورة” بقيت بين قوسين لتميّزها عن الثورات الملوّنة والناعمة والدموية وأعباؤها ضخمة وثقيلة عبر التاريخ لم يتحملها اللبنانيون الذين التهمتهم الطائفية منذ قرون، ولأنّ “التجمّع الأكاديمي” تفرّق عشّاقه بدوره وانتهى ولم يبق منه سوى العصامي خليفة وحيداً ومعه جبهة جديدة أسماها ” جبهة الدفاع عن الخط 29″، ولأنّ الدولة، ثالثاً، بسياساتها الإرتجالية المعتادة الباقية قوية بين قوسين باسم “المنظومة”، محكومة على مشاعيات الحريّة والسياسات الطائفية والحلول المستوردة الخارجية التي جعلت لبنان أرض شعوب وقبائل وسرقات وتتقاتل داخل الأسوار الضيقة يتخبّطون بأزماتهم المستعصية فيتعزّز الخلل الإجتماعي ويشيع البؤس والإهمال والجهل والعتمة والبطالة والجوع والهجرة واليأس والنوم على أبواب المصارف والمسشفيات فعمّت البطالة وتفشّت النفايات والأمراض في دولة مفككة باتت غير صالحةٍ للسكن تنتظر الحلول من فرنسا وأميركا وروسيا والصين والبنك الدولي والأمم المتّحدة ومن دول الخليج والسعودية وإيران وكلّ من يلتفت أو يهمّ ملوّحاً بقرع الأبواب المشلّعة. نحن وطن يتنظر الدفن من دون جنازات أو دموع أو تعزيات.
*كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه- عضوالهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات النيابية