د. عماد عكوش – خاص الحوار نيوز
طيلة عقود، شكّل القطاع المصرفي ركيزة رئيسية للاقتصاد اللبناني ، وتمكّن من جذب الودائع ورؤوس الأموال ، سواء من المستثمرين العرب أو المغتربين الذي رأوا في مصارف بلدهم ملاذاً آمناً لجنى عمرهم. وبلغت قيمة الودائع الإجمالية في ذروتها أكثر من 158 مليار دولار قبل عام من بدء الأزمة عام 2019، وفق تقديرات رسمية.
قبل أكثر من نصف قرن كانت مصارف لبنان مثالاً للقوة المالية وحداثة الأنشطة والخدمات والحرفية مقارنة بنظيرها في العديد من دول المنطقة ، وكان لهذه المصارف وجود ملموس في الخارج ، حيث حضرت في نحو 30 دولة ، منها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وكندا وبلجيكا وأستراليا وقبرص ، وأيضا في بعض الدول العربية مثل دول الخليج والجزائر ومصر والعراق والأردن وسورية والسودان.
لكنّ المشهد تغيّر كلياً على وقع الانهيار الاقتصادي الذي صنّفه البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، وفرض المصارف قيودا مشددة على عمليات السحب بالدولار ومنع التحويلات الى الخارج. وجعل ذلك المودعين عاجزين عن التصرّف بأموالهم خصوصاً بالدولار، بينما فقدت الودائع بالليرة قيمتها مع انهيار قيمة العملة المحلية في السوق السوداء بنسبة تزيد عن 85 بالمئة .
كانت لانهيار القطاع المصرفي في لبنان أسباب عدة منها :
– تراكم الدين العام نتيجة العجز الكبير في الموازنات على مدى ثلاثين عام .
– الفساد والهدر الكبير في القطاع العام كافة، ولا سيما في قطاع الكهرباء والذي راكم سلفات ودينا من مصرف لبنان تجاوزت قيمتها مع الفوائد 40 مليار دولار .
– توظيف المصارف التجارية لمعظم ودائعها في سندات الخزينة اللبنانية وودائع لأجل لدى مصرف لبنان المركزي مقابل فوائد مرتفعة .
– تثبيت سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية مقابل الدولار، بالرغم من العجز الكبير في الميزان التجاري على مدى ثلاثين عاما حيث بلغت بالحد الادنى نسبة العجز التجاري اكثر من 85 بالمئة .
– تراكم عجز ميزان المدفوعات منذ بداية الازمة السورية نتيجة العقوبات التي فرضت على لبنان، وبالتالي حرمته من التصدير والترانزيت عبر سوريا كما حرمته من استقبال ودائع السوريين في مصارفه .
مع استئناف البنوك فتح أبوابها من دون اعتماد السلطات العامة أي قوانين استثنائية لمراقبة رأس المال ، وهو من أساسيات إدارة الأزمة المالية ، نجح بعض أصحاب النفوذ المرتبطين بالنخبة الحاكمة في سحب كامل مدخراتهم أو جزء كبير منها ، رغم تعميم القيود بشكل عام منذ خريف عام 2019 ، بينما حُرم أغلب المواطنين اللبنانيين من الحصول على أموالهم المودعة في البنوك . كما سرّحت نحو ثمانية آلاف من الموظفين أي ما يعادل حوالي 37% من إجمالي القوة العاملة في القطاع ، وتهاوت أنشطتها المصرفية ، سواء على مستوى منح الائتمان أو تلقي الودائع والتي تجاوزت 158 مليار دولار في عام 2018 . كما تراجعت القروض المقدمة للقطاع الخاص من 59 مليار دولار إلى أقل من 20 مليار دولار في نهاية شهر تموز الماضي. كما باعت بنوك لبنانية عدة وحداتها وفروعها المملوكة لها خارج البلاد، مثلما حدث مع بنك لبنان والمهجر “بلوم” في مصر، وقلصت نشاطها بشدة في بلدان أخرى منها قبرص وسورية ومنطقة الخليج.
مع تراكم الاسباب والانحدار الكبير في نشاطها وبيعها لموجوداتها وبقيم غير واضحة، ولم يتم التدقيق بها من قبل جهات مستقلة للتأكد من عدم التواطؤ في التخلي عن موجودات المصارف وتحقيق أرباح خارج السجلات لمصلحة أصحاب المصارف، مع كل هذا التراكم بدأت المصارف اليوم تعاني من السيولة ومن عدم القدرة على الاستمرار وتحمل كلفة التشغيل، وزاد من الضغوط عليها تهديدات المؤسسات الدولية لها بإدراجها على اللوائح السوداء نتيجة للعمليات النقدية التي تمارسها مرغمة نتيجة لهروب المواطن اللبناني من التعامل مع المصارف ،الا في حالات الضرورة كالتحويل للخارج لأسباب تجارية او تعليمية او استشفائية .
النظام المصرفي القائم في لبنان ، والمكوّن من البنك المركزيّ والمصارف التجاريّة والتي فشلت في رسم سياسة نقدية ناجحة ، كان يفترض أن يعتمد على عرض كافٍ للنقد في الاقتصاد بكلفة تناسب الاستثمارات المنتجة في القطاع الخاص ، لحفظ النمو الاقتصادي ، وتوفير فرص عمل ، والسيطرة على التضخّم ، والسهر على استقرار سعر صرف الليرة وليس تثبيتها ، ويتّضح ممّا وصلنا إليه أنّ المصرف المركزي لم يحقق شيئاً منها على الإطلاق ، واختزلها كلها بهدف واحد هو تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية ، ما كلّفه عشرات المليارات من الدولارات جرّاء تدخلاته غير المدروسة . فتحقيق هذا الهدف تم بمسار مختلف ، حيث تم أعطاء نسب فوائد مرتفعة ، كما قامت المصارف أيضا بإعطاء فوائد مرتفعة على الودائع ، لذلك فضّل المودع والمصرف عدم الذهاب نحو الاستثمار والمخاطرة ، واختار تحصيل أرباح جرّاء النسب المرتفعة من العوائد ، وهو ما دفع المصارف إلى عدم قيامها بدورها الطبيعي في الاقتصاد ، من خلال بناء شراكة استراتيجية مع القطاع الخاص المنتج ، فيكون هو المموّل ، وتكون القطاعات المنتجة هي القطاعات التي تقوم بالاستثمار، فاتجهت نحو الاكتتاب بسندات الخزينة من دون أي ضمانات من قبل القطاع العام ، ووقعت بسببها في فخّ الفوائد المرتفعة ، بعكس القطاع الخاص الذي أثقلته بالضمانات .
المشكلة تكمن اليوم ان الدولة لم تفعل شيئا طيلة أربع سنوات من الازمة، في حين كان من المفترض أقرار قانون “الكابيتال كونترول” منذ بداية الازمة، كما كان من المفترض أعادة هيكلة المصارف لاحقا، خاصة بعد امتناع بعض المصارف عن تطبيق بعض التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان والتي هدفت الى اعادة تكوين الرساميل والسيولة لدى هذه المصارف ، كما ان المشكلة أيضا كمنت في عدم قيام الحكومات بوضع أي خطط للخروج من هذه الازمة الكبيرة فتراكمت المشكلة وهدرت الودائع واحتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، وأكل الدعم جزءا أساسيا من الاحتياطي، كما أكلت منصة صيرفة جزءا أخر الى أن وصلنا اليوم الى القعر باحتياطي لا يتجاوز 8 مليار دولار ،في حين تبلغ الودائع أكثر من 95 مليار دولار ،وتحول الاقتصاد الى أقتصاد “الكاش” حيث يتم تسديد معظم المستحقات والمدفوعات نقدا .
اليوم الخطر الاكبر الذي يواجه القطاع المصرفي والاقتصاد اللبناني هو هذا التحول الى “اقتصاد الكاش” بما يمثل من مخالفات لكافة القواعد والمعايير الدولية التي تحارب هذه الظاهرة التي تساعد على عمليات التهريب وغسيل الاموال وبالتالي تمويل الارهاب وتجارة الممنوعات .
بناء عليه، يواجه القطاع المصرفي خطراً كبيراً جداً مع المصارف المراسلة ، اذ لم يتبق لنا سوى مصرف مراسل وحيد يعمل مع لبنان وهوJ.P. Morgan، واذا اوقف هذا المصرف عمله مع القطاع المصرفي، نكون قد انفصلنا نهائيًّا عن النظام المصرفي العالمي والاقتصاد العالمي وسنعجز عن تمويل عمليات الاستيراد .
لكن هل يمكن المعالجة اليوم ؟
نعم لو توفرت الارادة لدى السلطة السياسية سواء التنفيذية او التشريعية، ولو توافر الصدق لدى الاحزاب في لبنان، يمكن الإنقاذ، فما زلنا قادرين على الولوج في الحل رغم اننا توغلنا في قعر الازمة ، وقادرين على أعادة الودائع ، وعلى بناء صندوق أستثماري شفاف يمكن ان يعطي عائدا يجاوز قيمة الموازنة ،اذا ما أحسنا استثمار اصول الدولة ، لكن يبدو أن الطبقة السياسية والمنظومة الحاكمة غير مستعجلة، وكأنها تمارس لعبة عض الاصابع ، لكن أصابع المواطنين ، وتنتظر الصراخ من كل المواطنين ليتم تحميلها كل المسؤولية وكل الكلفة .وهذا ما ظهر في أعداد الموازنات حيث تم تحميل المواطن اللبناني كلفة تغذية الخزينة لوحده ونأت الطبقة الغنية بنفسها عن هذه الكلفة .