كتب العميد المتقاعد عادل مشموشي:
درج الصهاينة على أن يُنغِّصوا على الفلسطينيين مناسباتهم الدينيَّة والوطنيَّة، ولطالما أذاقوهم مرَّ العيش وسفكوا دماءهم على أبواب الأعياد.
اعتقد الصهاينة هذا العام أن المُتغيرات على الساحتين الدوليَّة والاقليميَّة مؤاتية لاستكمال حلمهم الدائم في تهويد القدس تمهيدا لجعلها عاصمة حصريَّة لكيانهم الغاصب، وقد شجعهم على ذلك القرار الأخرق للرئيس الأميركي ترامب بنقل سفارة الولايات المتحدة الأميركية الى القدس الغربيَّة، واقدام بعض الأنظمة العربيَّة على التطبيع مع كيانهم تحت شعار التقارب بين اتباع الاديان السماويَّة والابراهيمية بالتحديد “نسبة ألى نبي الله ابراهم الخليل”.
هيأ حكام الكيان الاسرائيلي لفعلتهم الدنيئة باستصدار حكم قضائي قضى بإخلاء اهالي حي الشيخ جراح “أحد اهم رموز الاحياء العربيَّة في القدس الشرقيَّة” من منازلهم، وقرروا تنفيذ الحُكم المشؤوم قبيل حلول عيد الفطر السعيد، ولكنهم غفلوا عن أن المُسلمين يرجون كعادتهم في الأيام العشر الاواخر من رمضان ان تحل عليهم ليلة القدر فيستجيب الله عز وجل لدعواهم ويحقق أمانيهم.
انتفض المَقدسيون، مسيحيون ومسلمون، لنصرة إخوانهم في الحي منعا للاستفراد بهم. وتصدَّر مطارنة القدس وكل فلسطين قبل أئمة مساجدها الدعوة لنصرة أهل القدس، وحملوا راية الدفاع عن الأقصى رافضين التعرض للمقدسات الدينيَّة ووقفوا في وجه الانتهاكات الاسرائيليَّة، وأعلنها المطران عطاالله حنا صراحة أن كنيسة القيامة تصدح لبيك يا أقصى.
فوجئ الاسرائيليون بصحوة المقدسسين، ووقوف عرب ال ٤٨ الى جانبهم، وما لبثت الا أيام معدودات حتى أعلنت غزة وقوفها الى جانب اخوانهم وجهوزيَّتها للدفاع عنهم وعن القضية الأم.
اندلعت الحرب، وكانت المفاجأة وتكشَّف لقادة العدو أن حسابات الحقل التي ارادوها ليست كحسابات البيدر.
نعم فوجئ الصهاينة وربما العالم أجمع بوحدة الصف الفلسطيني، وكسر حاجز الخوف، ونزول الشعب الفلسطيني الأعزل بشيبه وشبابه وبنسائه وأطفاله إلى الشوارع والساحات مُعبرين عن سخطهم على الانتهاكات الصهيونية العنصرية اللاانسانيَّة، ونجحوا في شد انتباه العالم إلى قضيتهم المحقة، بعد أن أماطوا اللثام عن المزاعم الصهيونيَّة وعروا ذاك الكيان العُنصري الممعن في أعمال القتل والتنكيل، وكشفوا حقيقة ممارسات الدولة العبرية الاجراميَّة التي تنطوي على جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وابادة جماعيَّة، وممارسة إرهاب الدولة بأبشع الصور والاساليب لم تشهد البشرية مثيلا لها.
رغم الحصار، والتفاوت الهائل في الامكانيات المتوفرة لكيان مدجج بالاسلحة، يستند الى غطاء سياسي من دول عاتية، وشعب أعزل قليل الحيلة، يعاني من سياسة التجويع، نجح الفلسطينيون في هذه الجولة من الحروب القاتلة التي شنت عليهم منذ اغتصاب أرضهم، في نقل المعركة إلى داخل الكيان الاسرائيلي وخلخلوا استقراره. وبدلا من تبني مقولة عدم ترك العدو يرتاح، تبنوا هذه المرة مبدأ العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم، فردوا على قصف الطائرات المعادية للأحياء السكنية المأهولة وهدم الابراج السكنية، بقصف معظم المدن والدساكر الاسرائيلية، فنشروا الرعب ولو بإمكانات محدودة لدى المستعمرين والمحتلين الصهاينة المتواجدين على أرض فلسطين.
بدا المقاومون الفلسطينيون وكأنهم لاول مرَّة يؤسسون لقاعدة التوازن في نشر الرعب، رغم التفاوت الكبير في مقدار الخسائر لضيق الامكانات لديهم ومحدودية هامش المناورة.
نجح الفلسطينيون بوحدتهم بمقاومتهم بصبرهم برباطة جأشهم بتضحياتهم الجسام في التَّصدي للعدوان والصمود ومنع العدو من الوصول إلى أهدافه وتحقيق غايته.
انتصر الفلسطينيون في المعركة منذ اليوم الأول. فرغم فداحة الخسائر البشريَّة والمادية التي طاولت الارواح والممتلكات، جاءت النتائج المعنويَّة عظيمة على قدر الحدث، لتضمد جراح الشعب الفلسطيني الجبار، وترفع جبينه عاليا، وشجعت أطفال وكهول فلسطين وستشجعهم على الوقوف شامخين غير أذلاء في وجه المتغطرسين اليهود.
سعى المسؤولون الاسرائيليون لتغطية فشلهم باصطناع نجاحات وهميَّة بالتسبب بأضرار موجعة اقتصاديا وماليا وبشريا، إلا انهم فوجئوا بأصحاب الابراج يقفون مُبتسمين امام ابراجهم، وكذلك فعل ذوو الشهدا بصبرهم على ما أصابهم، وقفوا جميعا منادين بأن كل التَّضحيات تهون في سبيل فلسطين.
أسفرت انتهاكات آلة الحرب الاسرائيلية المدمرة بأساليبها غير الأخلاقية إلى تقلب الرأي العام الشعبي الدولي للوقوف الى جانب الشعب الفلسطيني في دفاعه عن ارضه وعرضه وكرامته بعد أم اثبت أمام العالم أجمع انه متشبث بأرضه ومستعد للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل وطنه.
وانعكس التخبُّط في القرار الاسرائيلي إلى تململ في صفوف الضباط والجنود، وتفشي السخط لدى الاسرائيليين على حكامهم، واعربوا جهارة عن عدم ثقتهم بأدائهم، وقضى على أملهم في العيش آمنين على ارض فلسطين.
لم تجد كل محاولات المراوغة والمناورات السياسية في قلب الموازين لصالح الكيان الاسرائيلي، بما في ذلك محاولات تبني بعض القوى الامبريالية لما تقوم به السلطات الاسرائيلية، محاولة إصباغ المشروعية على قصف الطائرات للاحياء السكنية وهدم الابراج، وشيطنة أطفال فلسطين ونسائها لرميهم الحجارة في وجه جنود الاحتلال، ومحاولة الباسهم لبوس الارهاب، كعادتهم في قلب الحقائق بتغليب تصنيف أصحاب الحقوق بالارهابيين، على توصيف اعمال الارهاب الاسرائيلية.
انتهت الحرب، تحت عنوان “اريد ان يكون لا غالب ولا مغلوب”، ومحاولة بتجنب ابرام اتفاق علني ينص على وقف النار، يقوم على انتزاع تعهد او قرار صريح من الدولة العبرية، بالامتناع عن ارتكاب المزيد من لانتهاكات التي تطال المقدسات او سكان القدس، والاعتراف بحق الفلسطينيين بارضهم، إلا أن الواقع يشير الى هذا الأمر من دون أي لبس، اذ أن ما بعد محاولة التعرض لاهالي حي الشخ جراح والانتفاضة الشعبية الفلسطينية العارمة، وصواريخ الجهاديين الفلسطينيين لن يكون كما قبلها.
لقد تبدلت الظروف وتغيرت المعادلات، وضاق الهامش امام الاسرائيليين لممارسة المزيد من الضغط والممارسات الاكراهية على الشعب الفلسطيني، الذي أضحى يعي اهمية الدفاع عن نفسه بنفسه، ويحسن استغلال طاقاته وقدراته.
نعم لقد نجح الفلسطينيون في كسب المعركة والانتصار على العدو وكسر عنجهيته، وتقويض هيبته وتلويث سمعته دوليا، وزعزعة ثقته بنفسه.
نعم نجح الفلسطينيون في اعادة تسليط الضوء على قضيتهم المحقة، واعادة تصويب بوصلة الشعب العربي، ولجم حملات التهافت على التطبيع.
نعم نجح الفاسطينيون في إعادة خلط الأوراق، وفرضوا أنفسهم كرقم صعب لا يمكن تجاهله او تفصيل حلول اقليمية على حسابهم.
لقد نجح الفلسطينيون في فتح كوة كبيرة في جدار الفصل العنصري، الأمر الذي سيدفع العدو مكرها صاغرا إلى العودة إلى أسلوب التفاوض لاعتماد حل سياسي سلمي للقضية الفلسطينواسرائيلية، بعد ان ثبت فشل أسلوب القتل والحروب العبثية.
هذه المرة سيكون الاسرائيليون على غير عادتهم. اذ من المتوقع بل من المؤكد انهم هم من سيبادر الى طلب التفاوض، ولو باستجداء حاميهم وداعمهم الأميركي للقيام بدور الراعي لمفاوضات ثنائيَّة، وستكون المفاوضات جدية لاول مرة منذ بدء الصِّراع العربي- الاسرائيلي.
وسنشهد تحولا عكسيا في اتجاه هجرة اليهود بحيث ستتحول وجهتهم. فبعد ان كانت الى فلسطين ستصبح حتما من فلسطين الى حيث اتوا، إنها منطلق لهجرة معاكسة.
اقول هجرة معاكسة لان المتغيرات والمستجدات توحي باقتراب نهاية فصل الاستيطان وربما الاحتلال، وبدء فصل عودة أهل الشتات الفلسطيني إلى ديارهم وتحرير ارضهم المغتصبة.
إن الدول العربية وجامعتها العربيَّة مدعوة اليوم لجردة حساب، واستعادة زمام الامور، والتشبث بموقفها دفاعا عن فلسطين، وعليها ألا ترضى بما يقل عما نصت عليه المبادرة العربيَّة التي أطلقها المغفور له الملك عبدالله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية سابقا، وخادم الحرمين الشرفين، والتي بنيت على حلول انسانيَّة، قوامها إقامة دولتين مستقلتين، إحداها دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. وفي ذلك أدنى مقومات صون للكرامة العربية.
مبروك لفلسطين، ولأهل القدس وللفلسطينيين كل الفلسطينيين، وما ضاع حق خلفه مُطالب.
زر الذهاب إلى الأعلى